Monday, October 27, 2008

حوانيت

حوانيت


(1)

علّق البقال قائمة الأسعار الجديدة على واجهة الدكان، وكتب أسفلها بروح مرحة «ويا رب الأسعار تثبت عند ذلك ولا تزيد!»، وكانت هذه العبارة تثير ابتسام الجميع عند الشراء منه، وأستمر الحال عدة أيام قبل أن يختفي شيء أثار هذه المرة الانتباه والشعور باليأس، نعم! مازلت الأسعار كما هي ولكن هذه العبارة التي بعثت التفاؤل .. اختفت!


(2)

«لاحظت المقهى الجديد الذي تم افتتاحه منذ أسبوع بالقرب من عمارتنا؟»

قال لي جاري ذلك، فاتحًا حوارًا بيننا ونحن نسير في طريقنا لشراء عشاء الليلة، ولم أرغب في الكلام فأصدرت صوتًا خافتًا وأومأت برأسي بأني شاهدته، واستمرت خطواتنا الصامتة قبل أن يقول بغتةً:

- «.. هو لم يعجبني!»

- «لِمَه؟»

وقادتنا خطواتنا عند هذه اللحظة أمام بائع الحليب، فدلف إلى الداخل، وانتظرته خارجًا، وراقبت البائع وهو يقوم بتلقائية متكررة بإيلاج كوب القياس لأسفل ثم رفعه لأعلى لينساب منه الحليب الأبيض في انسيابية رائقة ليستقر داخل الكيس الشفاف، مضت لحظات ولمحته وهو يتجه نحوي متفقدا باقي النقود، ثم صار بجانبي واستمرت خطواتنا تقطع الطريق، واعتدنا على الصمت في هذه المسافات الصغيرة التي نقطعهًا معًا، فهو يرى بها مشاركة وجدانية معي، بينما أراها فرصة لكي أصافح هواء الليل البارد وأراقب أضواء السيارات وأضواء الحوانيت المنتشرة.

بادرني قائلا:

- «أتعرف تلك الفتاة السمراء؟»

- «مَن هي؟»

أشار إلى اللاشيء أمامه:

- «تلك الفتاة!»

نظرت إليه وإلى الأضواء الهائمة التي تسبح داخل عينيه الآن ويستمر:

- «كنت أنتظر أن تظهر كل صباح .. وأحببت الانتظار من أجلها»

أعدت سؤالي السابق وقد تملاني الفضول:

- «مَن هي؟»

- «تلك الفتاة يا أخي! ..ابنة بوّاب العمارة المجاورة»

واستمر حالمًا:

- «لم أعتقد من قبل أن طريقة ربطها للمنديل على شعرها قد تثيرني إلى هذا الحد .. أنها فاتنة .. شعرها .. نمشها الأحمر الصغير المنتشر على الخد .. وجهها .. انحناءات جلبابها الفضفاض وهي تتحرك ..!»

وكأنه لاحظ أنه تمادى في الوصف والتعبير، فنظر إلىّ وعلى وجهه بقايا انفعالات حاول أن يخفيها، وقال:

- «أحقًا أنك لم تلاحظها من قبل؟»

- «ربما .. لست أدري!»

فأومأ برأسه ولم يتكلم، فقلت في حيرة :

- «لا أفهم!»

وأصبحنا أمام البقال، فتوقف برهة من الوقت ساكنًا متأملا السلع أمامه بدون تمييز، ثم التفت لي وقال:

- «ألم تلاحظ المقهى الجديد؟»

هززت رأسي وقلت في سرعة هذه المرة:

- «نعم .. لا بأس به!»

فأعاد النظر لصفوف السلع أمامنا، ثم قال في هدوء واقتضاب:

- «منذ افتتاح المقهى ..  لم أعد أراها!»

ودلف للداخل في سرعة، وتركني في دهشة أصابتني إياها حروفه الأخيرة، وتراجعت للوراء وأنا أحكّ ذقني برفق وأراقب أضواء السيارات والحوانيت والمارة، وأحاول اعتصار ذهني لأتذكر ملامح الفتاة الفاتنة التي احتجبت بعيدًا عن أعين زوار المقهى وهي لا تدري أنها كانت قبل ذلك مليء نظر صاحبنا كل صباح.


(3)

كانت جنازة الرجل مشهودة، وضاقت طرقات «القرافة» بأقدام المشيعين، وامتلأت سماءها بالغبار والصهد ورائحة العرق، وكان الوقت بعد صلاة الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وأعطت مكانة الأيام العشر الأخيرة هيبة وجلال على الميت المسجى وعلى المشيعين الذين يتقدمهم شيخ الجامع الإمام بملابسه الأزهرية الوقورة، الذي وقف عند باب المدفن الصغير، وأخذ يكرر فضائل العشر الأواخر ويطيل العظة والعبرة، إلى أن انتهى الدفن وتوارى الجسد تحت التراب، ليرفع الشيخ الإمام يداه للدعاء، فيرفع المشيعون أيديهم وراءه، وينتهي الأمر لينصرف الجميع متفرقين في أنحاء «القرافة» الواسعة ملتمسين طريقهم للخروج.

ولم تكن الصلاة الجامعة وحرمة الشهر فقط هما اللذان تسببا في ازدحام الناس للتشييع وسيرهم تحت شمس الظهيرة الحارقة وتحت وطأة الصيام هذه المسافة الكبيرة التي تفصل المسجد عن القرافة، وإنما يكمن السبب الأكبر في أن الجميع يعرف ذلك الرجل الذي حملوه منذ لحظات إلى مثواه الأخير.

أنه «عمّ عيسى» هكذا يعرفه الجميع، فهو بائع الفول الشهير، وهو ذلك العصامي الذي بدأ المهنة بجرّ عربة الفول كل صباح وهو يجوب الطرقات بلا ملل أو تعب، إلى أن تمكن من استئجار مطعم صغير ليتابع فيه مهنته، وإلى أن أستطاع بناء عمارة سكنية ليجمع فيها شمل أبنائه ويعينهم على استكمال نصف حياتهم، ولينتقل مطعمه الصغير لبيع الفول إلى مكان أكبر أسفل عمارته.

وكان الجميع يذكر تواضعه الشديد، فهو لم يتخل لحظة عن ملابسه البسيطة، ولم يستطع التخلص من جسده النحيل وملامحه الشاحبة التي أرهقتها السنين وجهد الحياة، ويتذكرون مكانه الأثير أسفل عمارته وهو يجيل النظر في صمت وهو يرقب حركة الشراء داخل مطعمه الكبير.

عُلقت أمام المدفن لوحة من الرخام نُقش عليها اسم الرجل وتاريخ الوفاة الهجري بخط بارز، ولم يتغير الكثير!، فمازال المطعم الشهير يلقى رواجًا، ومازال الناس يتذكرون الرجل الطيب المكافح، ومكان الرجل الأثير تغيّر قليلا، فالآن هو على الحائط داخل المطعم داخل إطار سميك أسود اللون، وهو يطل على حركة البيع كعادته الأخيرة بجلبابه الأبيض البسيط وملامح وجهه الشاحبة.


(4)

رآها تسير مسرعة أمامه وهي تقبض بيدها على محفظة نقودها الصغيرة، ولم يبد عليها كأنها تعبأ بأحد وهي تنظر في حركة ثابتة لا تتغير لنهاية الطريق، ولكن من هي؟، أنه يعرفها، رأى ذلك الوجه الأربعيني من قبل، أين؟، لا يدري!، نظر إلى ملابسها المتربة، أنها سيدة فقيرة لا شك!، يظهر ذلك من ملابسها .. حذائها .. طرحة الشعر المثقوبة، ورائحتها!

مَن قد تكون؟، أنه يتذكر أنه رأى هذا الوجه من قبل، لم يستطع أن ينسى مظهره الفريد، هذا الأنف الوردي الصغير والعينان المتسعتان في بلاهة يسيرة، وقبل كل ذلك طولها المتفرد، فهي كنخلة باسقة، من قد تكون؟

«قد تكون أحدى معلّمات المدرسة الابتدائية؟»، طرح ذلك التفكير سريعًا، فهندامها لا يدل على أنها كانت معلّمة ذات يوم في مدرسة طفولته، فهو من مدارس اللغات الخاصة!، وهو كم شاغب معلّمات مدرسته جميعًا .. ولكنه لا يتذكرها!

تأملها وهي تبتعد فيزيد من اتساع خطواته تدريجيًا ليتبعها دون أن تنتبه له، وتبرق فكرة أخرى، فهي ربما تكون من صديقات والدته، فوالدته سيدة اجتماعية إلى أقصى درجة، وهي تصادق الجميع من سيدات المجتمع إلى عاملات النظافة في الطرقات!، فربما قابل تلك السيدة المجهولة وهو مع والدته في الطريق.

أرتاح لهذا التفسير الأخير، ولكنه لم يتوقف عن تتبع السيدة المجهولة، وسار ورائها إلى أن انعطفت في طريقها ثم دخلت إلى مبنى مألوف لديه، فرفع رأسه ليدرك ويبتسم.

«أنها بائعة الخبز!»، هكذا قال لنفسه، فهذا الوجه الفريد بعينيه الواسعتين هو نفس الوجه الذي ميّز بائعة الخبز الذي داعبته ذات يوم وهو صغير في مرح بعد أن رأته مع والدته وهو يردد بصوت طفولي مثير: «الدور! .. الدور!» ليمنع بذلك تجاوز الناس للطابور، ومن الغريب أنهم كانوا يتجاوبون معه وهم يضحكون من براءته الظريفة!، وأعجبها ذلك، فأصبحت تناوله كل وقت تراه فيه مع والدته رغيف إضافي، تعطيه له باليد وتقول ضاحكة «هدية!»، ثم تقرص في رفق وجنته الناعمة المكتنزة وتلوّح بيدها مودعة.


(5)

هذا غريب!، فمن النادر أن أمرّ بهذا الطريق، ربما فعلت ذلك مرات قليلة لا تُذكر، ولكن ذلك الحانوت دائما ما يلفت انتباهي بقوة، أتذكر أنني رأيته منذ عدة شهور تكاد تقترب من السنة، رأيته وقد أصبح صالون حلاقة للرجال، وأتذكر أنه تم طلاء الحائط المجاور له باللون الأبيض ليُكتب عليه اسم الصالون، ثم مررت بالطريق مرة أخرى بعد ما يقرب من شهر ونصف، لأجده الصالون قد أعتزل عالم رؤوس الرجال واخذ حقائبه إلى عالم النساء، نعم! أصبح صالون تجميل للنساء، وتم طلاء الحائط باللون الأبيض مرة أخرى لكتابة الاسم الجديد عليه.

ولكن لم يدم الحال طويلا، فبعد عدة شهور قليلة، تجولت في هذا الطريق، فرأيت صف من الدراجات المتراصة، ولأفاجئ أن الصالون تحول إلى ورشة لتصليح الدراجات وتأجيرها، ولكن ما يزال هناك اسم صالون التجميل النسائي، فربما قرر صاحب الورشة عدم دهانه مرة أخرى توفيرًا منه.

وذهبت مرةً أخيرة لزيارة الشارع وبداخلي رغبة في رؤية مصير ذلك الحانوت الغريب!، وكلما اقتربت منه كان يتزايد بداخلي يقين بأني سأجده وقد تحول إلى نشاط آخر، واقتربت ورأيته، وصحّ ذلك اليقين بداخلي، ولكنه لم يتحول إلى نشاط آخر جديد، بل عاد مرة أخرى إلى نشاط صالون الحلاقة الرجالي، تمهلت في سيري قليلا لأنظر مرة أخيرة إلى ذلك الحائط، أصبح الآن أبيض بشكل تام دون أي كتابة عليه، فمَن يدري ماذا قد يُكتب عليه غدًا.


[تمت]

2 comments:

fofa said...

تقريبا البقال كان نفسه الاسعار تزيد
واليافطة دي كانت منظر بس
ولما الدعوة اللي علقها استجابت شالها تاني
ههههههههههههه
وبالنسبة للمحل
مفيش حاجة بتفضل على حالها
بوستات لذيذة
ميرسي ليك

نعكشة said...

قرأت البوست كذا مرة علي فترات مختلفة
احساس بقوة حضرتك ماشاء الله علي الملاحظة
تمكن حضرتك من الاسلوب

بس فية حاجات مفهمتهاش

زي قصة الصديق و بنت البوات

عجبني قصة عم عيسي الله يرحمة
و عجبتني الحتة لما حضرتك نقلت مكان متابعتة للمكان من الدكة بتاعتة للصورة اللي في البرواز

بيفكرني قصة المحل اللي شغال يتغير
بمحل جمبنا
كان سوبر ماركت
بقالي كتييييييييييييييير بشري منة
واول لما باعة او اجرة
فضل يتغير
مرة ماركت صغنن
ومرة بتاع خطوط تليفون
ومرة بتاع تليفونات
و بقالة فترة اهوه سنترال
ومحدش عارف

i am impressed with your obserbvation really

سلام عليكم