Sunday, December 21, 2008

آتٍ



في صباح اليوم التالي لموتنا ستظهر لهم أشياء جديدة لنا لم يلاحظوا دورها الجديد من قبل، فلأثوابنا المعلقة النظيفة أصبح لها رائحة مميزة تذكرهم بنا، و وكذلك حقائبنا ومحافظنا وأوراقنا المالية وكافة أغراضنا اليومية ستصبح قاسية المظهر أكثر وسيبدءون في النظر إليها وكأنها وجه آخر للموت، فملمسها جاف ويزداد كل يوم قسوة وبرودة.

وسيلاحظون بعد فترة أن رائحة الموت التصقت بكل شيء تعوّد عليه، فيحاولون تغيير مواضع الأثاث .. وإعادة تنجيده .. وأي شيء آخر ليضعوا قناع رقيق فوق وجه الموت، وإن كان ولدهم الوحيد .. فستغلق غرفته كما كانت يوم رحيله، ويصبح بابها المغلق، كأنه باب المقبرة الحديدي، وربما ستنسى هذه الغرفة كأن لم تكن موجودة من قبل في هذا المنزل.

وأشعر أن نبأ وفاة الطفل الصغير لا يحمل الأثر العميق ذاته الذي يحمله نبأ وفاة الشاب أو الفتاة، لأنهم يدركون أن الأطفال مازالوا لم يدركوا بعد خبرات الحياة أو مواقفها، ولم يطمحوا لشيء حقيقي أكبر، كعاطفة ومركز اجتماعي ومال، فقلبهم توقف قبل أن يطل من نافذة الدنيا وقبل أن تتشكل نظرتهم لها، فهم مازالوا محتفظين ببراءتهم الطاهرة وأنهم عصافير الجنة وأحباب الله.

أما عندما يموت شابًا، فالأثر أكبر، ولا يهم إن كنت تعرفه أو تعرفها من قبل، يكفي أن تسمع أنه مازال طالب أو طالبة أو مازال في العقد الثاني أو بداية العقد الثالث من عمره، يكفي هذا لكي ينقبض قلبك له، وستتساءل: أنه صغير! .. هل اختبر شعور التخرج .. أول عمل .. أول فتاة .. أول موعد .. أول حب .. أول قطعة أثاث وضعت في شقته الصغيرة .. وأول ليلة له فيها، وأنه شاب صغير، هل عرف ربه .. هل واظب على الصلاة .. الصوم؟ .. الزكاة؟، هذه أشياء صغيرة ولكنها تخترق القلب وتترك به آلاف الثقوب.

وتسمع بأن جاركم الذي تجاوز منتصف العمر توفى، فلا يحدث لك نفس الأثر، وإن حزنت فأن حزنك ليس له وإنما لأولاده .. لزوجته، وما مصيرهم وقد فقدوا هذا السند، فأنك لا تحزن على الحائط المنهار وإنما على من كانوا تحته، فهذا الرجل قد ترك أسرة ومنزل وذكر طيب، أي أنه ترك أثرا ما شبه مكتمل من بعده، وهذا الأثر الباقي  له القوة على أن يمحي حزنك.

والحزن على صديقك، هو في الحقيقة حزن على ذلك الفراغ الذي كان يشغله من حياتك، وملأه معك بمواقفكم المشتركة وذكرياتكم، فأنت حينها ستحسّ بوزن الفراغ المنعدم في روحك وإحساسك، فتفقد الاستقرار قليلا وتحسّ بالحزن.

وأما الشاب أو الفتاة، إن كنت تعرفهم، فأنك تفتش عبر حياته القصيرة على أي شيء قد فعله، أي موقف صغير، أي مسابقة محلية فاز بها، وتنظر للصور .. أنه جميل وهي أجمل، وجوههم تفيض بشارة وسعادة وخدودهم وردية، ولكن هل تحقق شيء آخر غير هذا الجمال؟!، ستردد أنه كان فيه «بوادر» رجولة حقيقية .. «بوادر» تحمل للمسؤولية .. «بوادر» فكر متميز كان سيعد بشيء في المستقبل، وستردد أنها كانت تحمل «بوادر» أنوثة طاغية .. و«بوادر» روح مرحة كانت ستتجاوز بها عقبات حياتها، و«بوادر» حياة اجتماعية وتميز في مجال عملها في المستقبل، فحياتهم السابقة أصبحت الآن «بوادر» لشيء ما، كأنها ثمرة جميلة .. أو في طريقها لأن تكون كذلك .. ولكنها عندما سقطت، لم تكن ناضجة!

...

ومَن يتحدث عن الموت فهو يحترف فن الكتابة المطاطية، فهو يمطّ الحروف والكلمات والجمل، ليجعل مما يكتبه شيئا له أهمية، والموت لا يستحق كلّ هذا، فكل ما هو آتٍ آتٍ، ولكن أنت بك رغبة طبيعية في التمرد ورفض الرحيل عن الدنيا فجأة، فأنت وأنا كما قال الإمام علي " كأن الموت على غيرنا كُتب".

وأنت ربما قد مرّت عليك وفاة شخص قريب منك، فتحزن ويتعبك الحزن فتنام، فترى وكأنهم قد أخذوك ودفنوك، فتصيح، فأنت مازلت حيًا، ولا يسمعك أحد، وتصرخ وتضطرب إلى أن تستيقظ من هذا الكابوس، وربما قد تنسى مبادئ التحلل وأنت تخبر أصدقائك بأنك لا ترغب في أن يتم دفنك إلا بعد مرور ثلاثة أيام مثلا، فيضحكون من رغبتك العجيبة، وأنت لا تدري سبب هذا الضحك، فأنت تخاف من أن يتم دفنك حيًا .. وفقط!

...


وفي القرآن آية، عندما قرأتها لم أستطع تجاوزها دون إعادة قراءتها مرة بعد أخرى جامد العين، وأحسست بعد ذلك أن لها قصة لا أعرفها، فقمت وراجعت كتاب التفسير، وعرفت أن هذه الآية تُسمّي ب«مبكاة العابدين»، وحزنت فأنا لم أستطع البكاء أو التباكي!

فأنا في ذلك مثل إمام الصوفيين في عصره «يوسف بن الحسين الرازي» (ت 304 هـ)، وله حكاية، فلأنه رجل صوفي له مكاشفات وأحوال وكلمات غامضة اللفظ بعيدة المعنى، فلهذا تجنبه عامة أهل مدينته وقالوا بأنه زنديق، وذات يوم وهم كذلك دخل عليه أحدهم فرآه وحيدا وهو يقرأ في القرآن، فالتفت له يوسف وقال له:

- لأيش جئت؟

فقال:

- زائرًا

فقال:

- أرأيت لو ظهر لك هنا من يشتري لك دارًا وجارية ويقوم بكفايتك .. أكنت تنقطع بذلك عني؟

قال:

- يا سيدي!، ما ابتلاني الله بذلك!

فقال:

- اقعد، فأنت عاقل .. تحسن تقول شيئا؟

قال:

- نعم!

قال:

- هات!

فأنشد الرجل هذا الشعر:

رأيتك تبني دائمًا في قطيعتي

ولو كنت ذا حزمٍ، لهدّمتَ ما تبني


كأني بكم، والليت أفضل قولكم

ألا ليتنا كنا إذ الليت لا تغني


فبكى يوسف وطال بكاءه، ولما هدأ قليلا التفت للرجل وقال له: يا أخي!، لا تلم أهل مدينتي على أن يسموني زنديقا، فأنا من الغداة أقرأ في هذا المصحف وما خرجت من عيني دمعة، وقد وقع منّي فيما غنيّتَ ما رأيت!

 ..

فعند ذكر الموت والوفاة، فأن أول ما أتذكره هو قول الشاعر: (المرءُ ينسى الموتَ ثم يهزّهُ  .. موتٌ فيذكر ثم ينسى جاهدا)؛ ثم أنسى أي آية تحدثت عن الموت وأقف أمامه صامتًا ساكنًا في شيء أشبه بالخشوع ولكنه ليس بذلك!

رحم الله الإمام يوسف الرازي ورحمني معه وإياكم!

8 comments:

Anonymous said...

صحيح أن هذا أول تعليق أُضيفه إلى المدونة , لكنها بصدق ليست أول زيارة, ولكن الانطباع الذي يصيبني بعد قراءة كل مقال أو موقف أو "post" يجعل من الصعب كثيراً إضافة تعليق كتابيّ عليها,
أغبطك على هذا القلم , و هذا التعبير, بارك الله فيكَ, وزادك من فضله.

**

بالنسبة لهذا الموقف لا أدري لماذا تذكرتُ الآية الكريمة: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) وبصراحة هذه الفكرة تذيبني خوفاً , و أخشى قسوة القلب!

**

شكراً لكَ دوماً

**

بنت الصحراء

Rehab said...

بلى هو آت آت!
و لن أنكر أننى دوما فكرت فيه!
و كلما حدث ذلك تذكرت أننى مقصرة..فى حق كل شئ..فأبكى ..و لكن لا جدوى..أعود من حيث أتيت!

ذكرتنى أن أكمل ما بدأت من رواية نائب عزرائيل!

تحياتى

أحمد فضيض said...

@
بنت الصحراء
-------

تمنيت لو كان خلف أسمك يكمن عنوان مدونة ..
لأنكِ أيضًا ذات فكر ووجهة نظر متميزة كما عهدتك

وآيات الوعيد جديرة بأن تذيب أعتى القلوب، ولكن من يعتبر :(

والشكر موصول لكِ دومًا

\\\\\\\\\\\\\\\\

@
Rehab
بعيدًا عن الموت فأنا قريت الرواية في المدرسة الإعدادية وهي كانت بتثير الخيال فعلا في تلك المرحلة
وخاصة أن الفكرة بشكل عام طريفة والأسلوب سهل ممتنع

قراءة ممتعة :D

fofa said...

المرءُ ينسى الموتَ ثم يهزّهُ .. موتٌ فيذكر ثم ينسى جاهدا

عندك حق
دي فعلا اول حاجة بتذكرها
لما اعرف ان اي حد مات
انى فعلا مقصرة جدا
ربنا يهدينا جميعا ويرحمنا

أحمد فضيض said...

د.فوفا

بيقولوا إن الإنسان سمى بذلك لنسيانه يعني طبع النسيان مركب فينا

وهذا جيد، عشان لو افتكرنا أنا لموت آتي ديما مش هيكون في وقت نخطأ فيه فنستغفر فيغفر الله تعالى

نورتيني

والبيت لعزيز أباظة :D

ســمـــر احمد said...

مساء التأمل و ..بعض الشجن وربما كثير من دعاء بأن يحسن الله ختامنا فيصير عزاء الاحبة انهم يحسبوننا من الاتقياء و يكون امننا من الخوف امل ..
تحية ومودة
زيارتى الاولى لمدونة جديرة بالمتابعة

Anonymous said...

لا أدري كيف نسيتُ إضافة رد هنا!

:D

على أي حال,
شكراً جزيلاً لكَ أ.أحمد على هذه الكلمات التي تفوق قدري,

و..

معكَ حق فيما قلت.

بنت الصحراء

Dina said...

أشكرك على مصافحتك وزيارتك التى اتاحت لى الفرصة لزيارة مدونتك

لك اسلوب جميل رشيق يشجع على مواصلة القراءة والتأمل

سعدت بك