Friday, February 6, 2009

الأضواء والظلال بين الدين والمجتمع


كتبت الروائية الحائزة على جائزة نوبل «بيرل باك» رواية عن فتاة صينية تزوجت تبعًا للتقاليد من ابن صديق لوالدها درس وتعلّم لسنوات علوم الطب في بلاد الغرب، وعندما عاد تزوج تلك الفتاة التي كانت تؤمن منذ الصغر بأن علامة جمال المرأة تكمن في صغر ودقة مقاس القدم، فهذا ما تعلمته من الأعراف الصينية التي أخذتها من فم والدتها، التي كانت تشرف وهي طفلة على نقع قدميها في الماء الحار وشدهما بالأربطة، ويزداد الشد يومًا عن يوم، فإذا ما اشتكت الطفلة وبكت في جزع، ذكرتها والدتها بأن زوجها في يوم من الأيام سيطري جمالهما، فتتحمل الطفلة من أجل ذلك هذه الآلام في صمت؛ ولكن الذي حدث أن الزوج العائد من بلاد الغرب، طلب منها ذات يوم بعد زواجهما أن تحرر قدميها، لأن ذلك الرباط الضاغط حسب ما تعلمه في بلاد الغرب غير صحي للجسم والعظام، وأنه يرغب في أن تفك الأربطة لأنهما غير جميلتين! .. فكان من الطبيعي أن تتألم الفتاة أكثر لأن جميع ما بذلته من اهتمام فائق منذ صغرها في شيء كانت تظنه يحمل كل معاني الجمال أصبح الآن في لحظة واحدة بلا قيمة.


ومعنى هذا أن الإنسان في أحيانًا كثيرة يبذل طوال حياته مجهود دائم ومستمر من أجل أن ينال شيئًا جعلته تقاليد وأعراف المجتمع غاية الأمر من الحياة، ويتمثل هذا في دراسته والتحاقه بكليات القمة والعمل بكد من أجل توفير الحياة اللائقة له، وقد ينفق الإنسان العمر بأكمله في هذا الطريق المرسوم له من قبل المجتمع، ولكنه ينسى شيئًا هامًا خلال هذه الرحلة .. وهي تنمية الصلة والأسباب التي بينه وبين ربه.
ويغفل الكثيرون عن هذا، لأنهم يعتبرون أن غاية الأمر من ناحية الدين هي المواظبة على الصلاة وقراءة القرآن وصيام رمضان، وهذا حَسَنٌ، ولكنه لا يكفي، فالإنسان وخاصة في مرحلة الشباب يمر كثيرًا بمرحلة الفراغ النفسي، ويكون في هذه المرحلة عرضة لكثير من الفتن ومنها الفتن الدينية، فقد ينجرف بدون وعي إلى إحدى الجماعات الدينية المتطرفة فتسئ لمفاهيم الدين التي لم تنضج بعد لديه، فيعتنقها طوال حياته ويدافع عن تطرفها بقوة رغم أخطائها الواضحة.


وفي مرحلة الشباب أيضًا يظن الإنسان أنه يفهم الكثير من كل شيء، ويظن أن كتاب الله الذي يقرأه لا يحتاج لتلك الكتب الضخمة في تفسيره فالآيات في مجملها واضحة أمامه ويدرك القصد منها تمامًا، ولكن الأمر ليس كذلك!، فيقع في أخطاء ما كان سيقع فيها لو بحث وقرأ واستفاد وعرف قيمة العلم ومتعة اكتشاف المعلومات الجديدة التي تتصل بدينه.



ويوجد صنف آخر من الناس لديه قناعة عالية بأن هذا الدين بوضعه الحالي قديم!، ويحتاج للتجديد وذلك بأن يكون أكثر عصرية!، ولنا أن نعذرهم في هذا التفكير، فهم يرون أن أكثر رجال الدين يتحدثون عن أمور لا تفيدهم في واقع حياتهم، وأن الكتب التي على الأرصفة إما كتب تراثية صفراء في طبعات جديدة نالت شهرتها قديما وحديثًا لأنها كانت متماشية مع ذوق وفكر عصرها الحالي، وإما كتب كتبها معاصرون ولكن بنفس فكر الكتب التراثية القديمة وبنفس الأفكار وإن جاءت في ثوب جميل من الألفاظ.
ولذلك فهؤلاء الصنف من الناس يملك إجابة دائمة لكل المعاملات والمسائل المعاصرة، وهي أن الدين ليس عصريًا ولا مجديًا إلا في فقه العبادات، والتي هي الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج، وباقي أبواب الفقه تحتاج لإعادة النظر بروح عصرية لهذه المعاملات المستحدثة في حياتهم، وإنه ما دام قد ارتضاها أكثر المجتمع فهي لا بأس بها.


ومن ذلك أن نظرة العديد من الناس لم تتغير تجاه معاملات البنوك والفائدة، رغم أن الربا ربا، وتجاه التعدي على الحقوق الفكرية للمؤلفين وتداول الأفلام والشرائط والكتب المنوعة على شبكة الإنترنت بين الأصدقاء والمعارف، رغم أن السرقة سرقة، وبين ضياع حقوق الجار واستحلال أشياء كان يراها أهل العصور الإسلامية الأولى في مضمونها الأساسي من أعمال الفاسقين من الناس ومثل هذا كثير!
وهناك على الجانب الآخر العديد من المتبحرين في الدين الذين يرون أن السلامة في اعتزال الناس، وعذرهم في هذا أن المجتمع فاسد، فهو لا يسير على النمط المثالي للإسلام في العصور الأولى له، وأنه لا فائدة ولا قدره لهم على محاولة الإصلاح، لذا فالأفضل أن ينصرفوا إلى شئونهم الخاصة مع إظهار الاشمئزاز على ما يرونه من الفساد!


وهم على خطأ، لأن ذنوب المجتمع، أي مجتمع، عندما تكبر وتتضخم فهي تلتهم الجميع، ولا تفرق بين صالح وطالح، وبين مرتاد الأندية الليلية وبين مرتاد المساجد، وقديما قال الخليفة عمر بن عبد العزيز «كان يُقال: إن الله تبارك وتعالى لا يعذّب العامة بعمل الخاصة، ولكن إذا عُمِلَ المنكرُ جهارًا .. استحقوا العقوبة كلهم»
ويعتقدون أيضًا أن الواقع أسوأ وأنه لا أمل في المستقبل وأن هذا زمان الفتنة، ولكن لماذا؟!، فمادمت قادرًا على التكلم والتصرف فهناك متسع للمحاولة وفرصة للتغيّر، وفي ذلك يقول الدكتور يحيى هاشم فرغل «أن النظام الإسلامي لم يصل قط إلى مرتبة التطبيق الشامل، وأن ذلك لا يحسب على الإسلام ضد صلاحيته .. ولكنه يحسب له باعتباره هدفًا خالدًا لهذا التطبيق، وأن سر بقاء الإسلام يكمن في أنه يستعصى على التطبيق الكامل .. ليظل مثلا أعلى تسعى البشرية إلى الاقتراب منه.»


وهو على حق فهناك دائمًا الكثير من الأنوار لمَن يرغب في الرؤية، وكثيرا من الظلال لمن لا يرغب!


4 comments:

Anonymous said...

العقاد الصغير ,

أم أحمد أمين,

أم؟

أسلوب التحليل و الاستهلال في هذا المقال رائع, سلمت يمناك!

بالمناسبة حتى تعليقي الذي كتبته , كتبته دون تحرير , ووجدتُ أيضاً أنني عالقة في عرف ربط أسلوب كتابة هذا المقال الجميل بأسلوب شخصية معروفة لها وزنها و قيمتها في الفكر الإسلامي خاصة و في التفكير و التحليل بشكل عام .. ولكن لماذا !

لماذا لا يكون التقدير تقديراً خالصاً من أي محاولة لإيجاد نقاط التشابه أو مناطق التأثر .. شيء عجيب حقاً!

لذلك كانت حرية العقل و النفس من أصعب الحريات التي يمكن أن يمتلكها إنسان, من السهل جداً أن يملك حريته المادية , أما الحرية الروحية و الفكرية من الصعب جداً أن يقترب منها!

ممممممممممم..

بنت الصحراء

Rehab said...

رؤية رائعة
عود أحمد!:D

أحمد فضيض said...

بنت الصحراء ..

--
لذلك كانت حرية العقل و النفس من أصعب الحريات التي يمكن أن يمتلكها إنسان, من السهل جداً أن يملك حريته المادية , أما الحرية الروحية و الفكرية من الصعب جداً أن يقترب منها!
--

هذه هي الخلاصة التي أردت كتابتها
:D

ومش عارف ليه افتكرت مقال للروائي الحائز على نوبل برضه : غابرييل ماركيز لما كتب مقاله وصف فيها رحلة جوية قام بها على ظهر طائرة الكونكورد .. ولما كان بيحاول وصف مدى فداحة سعر التذكرة مع ضيق وصغر هذه الطائرة الفائقة السرعة قال كلام عادي لم يؤدي إلى معنى مميز فيما يتعلق بالعائد السيء الذي حصل عليه مقابل سعر التذكرة ..

وبينما هو كذلك مرّت من أمامه سيدة لسه راجعة من دورة المياة في الطائرة الكونكورد وهي تقول متذمرة :
كان في استطاعتهم بمثل هذا السعر أن يضعوا داخل كل طائرة لوحة لبيكاسو

فأعجب غابرييل ببلاغتها :D

:D شكرًا لمرورك


----

@ rehab

ولاحظت انقطاعك عن الكتابة أيضًا قليلا :D

ولا أعلم سبب هذه الغيبة التي لا يوجد لها ما يبررها ولكن الحمد لله انتهى الإضراب إلى حين :D

وسأحاول التنوع في الكتابة حتى لا اسأم :D

وهاخد عبارة (العود أحمد) شعارًا لي :P

Anonymous said...

كلام جمبل وسهل ويختصر كثيرا من الخطب الطويلة والدراسات المعقدة
شكرا لك