Wednesday, March 4, 2009

وفشل في كتابة القصة

عامل إثارة!

تنهّد طويلا، فمجموعة الأوراق مازالت بيضاء أمامه ولم تستنشق بعد رائحة الحبر الجاف، وضع القلم جانبًا ونهض إلى رفوف الكتب القليلة التي تشكّل مكتبته، قال متحمسًا «حسنًا! .. ليس الأمر بهذه الصعوبة»، تناول إحدى الكتب عشوائيًا، وأردف «.. مهما يكن!، فسأجعل أول ما يقع تحت ناظريّ هو موضوع قصّتي الأولى! .. مهما يكن!».

وتكوّنت سريعًا لديه أفكار وتفاصيل صغيرة لتساعده في تحويل هذا الأمر الحماسيّ إلى أحرف وكلماتٍ تُسطر فوق مجموعته الفاخرة المصقولة من الأوراق البيضاء، الذي جلبها هذه الليلة فقط كي يحاول للمرة الأولى كتابة قصة قصيرة، فإن تناول كتابه عن الحرب العالمية الثانية، فسيجسّد حدثًا من أحداث هذه الحرب التي يعشق قراءة تفاصيلها، وإن كان كتابًا قديمًا لوالده الطيّب الذكر عن الإمام الغزالي، شيخ والده المفضل، فما أسهل أن يرسم لحظة من لحظات معاركه الفكرية العديدة وحياته الصوفية بأسلوب يجاهد لأن يجعله أشبه شيئًا بالأسلوب القصصي، وإن تناول كتابه عن أمراض الجهاز الهضمي الذي اشتراه قريبًا لا شيء إلا لأنه تذكر، عندما لمح عنوانه عند بائع الصحف اليومية، مقولة سمعها يومًا من جدّته وهو صغير «المعدة بيت الداء»، فشعر حينئذٍ بفضول العلم وبرغبته الغامضة في أن يكون أكثر حكمة من أصحاب التجاريب ذوي السنوات التي لا يتذكرها أقاربهم أنفسهم إلا بجهد، فهم يقولون في يسرٍ لمن يسأل «أوشك أن يتمّ المائة من العمر!»، فإن كان هذا الكتاب الطبي، فالأمر يسير له، سيستعين بعالم الخيال، وسيجعل تلك القصة الأولى عن رحلة خيالية تقوم بها كائنات ضئيلة للغاية داخل أمعاء الإنسان، «لمَ لا؟!»، تساءل، وهو ينظر إلى إعلان القصة القصيرة أمامه، فهو لا يعلن شيئًا عن نوعية هذه القصة، «مَن يهتم؟!، فلتكن إذن قصة للأطفال .. للناشئة .. للشباب .. للكهول .. للخرف! .. مَن يهتم؟!».

ونظر إلى الكتاب الذي تناوله عشوائيًا، وقرأ العنوان «مكاشفة القلوب المقرب لحضرة علام الغيوب»، لم يستكمل قراءة الغلاف، فلا شك أنه للإمام الغزالي من مجموعة كتب والده القديمة، وأخذ يتنقل بين الصفحات بلا هدى لعلّه يجد مادةً مناسبة لبناء قصة قصيرة.

 قرأ:
 «أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم لا يُدرك إلا بترك النعيم»

قال متهكمًا:
«لا ينفع هذا يا إمام!، أريد مادة قصصية لا عبارات منمّقة!، ثم أنني لا أملك نعيمًا لأتركه»

قرأ:
«.. وقيل لبعضهم: لو تزوّجت!، قال: لو قدرتُ أن أطلّق نفسي لطلّقتُها، وأنشد:
تجرّد من الدنيا فإنك إنما     سقطتَ إلى الدنيا وأنت مجرّدُ»

قال متململاً:
«يا إمام!، لا أحب هذا الشعر القديم الذي لا أفهمه!، ثم أنني أريد الزواج أيضًا ولستُ زاهدًا فيه!»

قرأ:
« .. ويحكى إن جماعة دخلوا على "الشبلى"، رحمه الله تعالى، فقال من انتم؟، قالوا: نحن أحباؤك!، فأقبل ثم رماهم بالحجارة، فهربوا من أمامه، فقال لهم لمَ تهربون مني؟، لو كنتم أحبائي لما فررتم من بلائي!»

قال متبرمًا:
 «لا يصلح هذا يا إمام!، كيف يمكنني الإضافة إلى تلك القصة .. أأتركها هكذا .. إذن ماذا فعلتُ؟!»

وألقى بالكتاب بعيدًا في سخطٍ واضح، ولملم مجموعة أوراقه البيضاء في يأس، وتنهّد مرةً أخرى في استسلام، وفي بساطة أخذ القلم ووضعه برفق فوق الجريدة اليومية ليستخدمه فيما بعد لإنهاء الكلمات المتقاطعة، فقد أدرك انه يجهل كيفية ابتداء قصته القصيرة، كيفية العثور على عامل الإثارة الذي يلهب شرارة الإبداع الأولى، كيفية أن رائحة الحبر تكفي وحدها أحيانًا لتثير شوق الأوراق لتقترب من سنّ القلب المدبب، ونسيَ أن يلعب على وتر شوق الأوراق ولهفتها الدائمة للعناق، مسكين!، لقد كانت الفرصة أمامه طوال هذا الوقت.

                                                     

5 comments:

HaNoDa said...

الله

حضرتك صورت معاناه بتحصل معايا

واحيانا بتبقي الفكره بتبقي موجوده

وبرضه مش عارفه امسكها منين

زي ما يكون بتطير

تدوينه رااائعه يا فندم

سلمت يداك

أحمد فضيض said...

وكانت هذ معاناتي أيضًا ..

ولكنني قررت انتصر لفشلي واكتب قصة عنه :D

نوّرتي د.هنودة

د.آيه said...

بسم الله الرحمن الرحيم
تقبل أول زيارة ليا...
مدونة حضرتك جميلة..
و البوست ده جميل جدا.. أجدت التعبير..
تحياتى

حسام said...

رائعه
من يحاولون كتابة القصة لهم الله
ومن لا يرون الجمال والاثارة في كل ما يقع بين ايديهم
فلا اعلم لهم حلا
ولكن
لهم الله

أحمد فضيض said...

@ د.آية

هنيئا دخولك مجال التدوين ومواضيع البداية رائعة

لي زيارات دائمة لمدونتك إن شاء الله :D

----

@حسام

--
ومن لا يرون الجمال والاثارة في كل ما يقع بين ايديهم
--

هنا مربط الفرس كما يقال، هناك من عندما يتصدون لكتابة قصة أو رواية فهم يسجلوان الفكرة مجردة من أي إحساس، فتظهر القصة أو الرواية باهتة وغير مؤثرة

على عكس لو جعلنا الكاتب نندهش بأن مثل هذه الأحداث التي قصها أغلبنا مررنا بها ، ولكنها لم تجذب انتباهنا دقة التفاصيل الدفينة من قبل

لكما تحيتي :)