Wednesday, July 22, 2009

حَدَثْ





سحب مقعده الوحيد في حانوته، وتقدّم إلى تلك الجماعة من الناس التي تكونت منذ برهة، شق تجمعهم ووضع المقعد، وما لبثت أن تحركت سواعد الجميع لتعاون تلك الفتاة الغريبة في الجلوس عليه، تأملها قليلا بثوبها الأسود البسيط وشعرها الأسود القصير ووجهها الأبيض المنحوت بدقة بأزميل الرب، فهو لا تشوبه شائبة، إلا شائبة ذلك الشحوب الرماديّ الذي يعتليها ..

- أأفاقت؟
- نعم!
تدخل أحد الوافدين الجدد، وأطل على الفتاة:
- ماذا حدث؟
- أُغميَ عليها وسط الشارع!
-  أنستدعي طبيبًا؟
صاحت سيدة:
- لا داع!، إنها الشمس!

رفع أكثرهم رؤوسهم في هذه اللحظة لأعلى، ناحية قرص شمس الظهيرة المرتفعة في كبد السماء، وتزايدت قطرات العرق على جبينهم وهم ينظرون إلى هرولة صاحب المقعد إلى حانوته القريب ليعود ومعه إحدى زجاجات المياه الغازية، وأحسوا بجفاف أفواههم مع تصاعد أبخرة البرودة من فوهة الزجاجة ..
ناولتها السيدة الزجاجة، ثم أسرعت لإمساكها بعد أن شعرت بخوار قبضة الفتاة عليها، تركتها أسفل المقعد بجوارها، وهي تقول مشجعة:
- لا تقلقي!

مالت الفتاة أكثر في جلستها، وأسدلت يديها في إعياء، وأجالت نظرات حائرة فيمن حولها، أدركت أنها حُملت إلى جانب الطريق أسفل شجرة قريبة حيث الظل، أغلقت عينها في ضعفٍ، لم تدري كم مرّ من وقت، تنبهت على صوت واهن، نظرت فوجدت شيخًا عجوزًا ينظر إليها من بين الوجوه المطلة منتظرًا إفاقتها، سمعته يقول:
- يا ابنتي!، كيف تشعرين الآن؟
لم تجب، فتابع في إشفاق:
- أتريدين الدخول والانتظار بمصلّى السيدات؟
وأشار بيده، فرفعت وجهها إليه رويدًا، ثم إلى حيث أشار، ورأت ما بدا لها أنه مدخل المسجد، لم تجب وأسقطت رأسها كما كان، أحسّت بتباعد خطواته عنها، خطر لها أن هذا هو صوته البعيد الواهن وهو ينهر أطفالا صغارًا يلعبون الكرة بالقرب منها، ينهرهم ليحضروا معه الصلاة داخل المسجد وإلا فليبتعدوا عن وجههِ وقتَ الصلاة!، اختفت من مسامعها أصوات الكرة المتقاذفة بينهم، لم تعرف إن مال الأطفال لرأي الشيخ في الصلاة، أم ذهبوا للبحث عن مكانٍ آخر لاستكمال اللعب بعيدًا عن مسجده وإزعاجه لهم!

  لم يبق حولها إلا القليل، صاحب المقعد والسيدة، وأطفال انبثقت عنهم الأرض فجاءوا، وشعرت بنظرات جائعة موجهة إليها، نظرت دون أن ترفع رأسها، فرأت قدميه، شعرت بأنهما له، لأحد الفتيان أيّ ما كان، شعرت بالضيق من شعورها بأنه ينظر إليها بهذه الطريقة، اعتدلت في جلستها في سكون، وامتدت يدها لترسل ثوبها الأسود إلى أسفل، ثم حاولت الاستناد على قاعدة المقعد لتستوي قائمة، ولم تقدر، فتهاوت عليه ثانية ..

- لا يجوز هذا!
صوّب صاحب المقعد نظراته إلى الشرفات المطلة عليهم، وتابع بعد أن لمح البعض من ربات البيوت ينظرن إلى هذا الحدث الذي يبدد تشابه الأيام لديهن، وتابع في يأس بعد أن نظر إلى حانوته الصغير الخالي من الزبائن:
- ماذا نفعل؟

تفرق الناس من حولها، وتشاغل الأطفال بملهياتٍ أخرى، وأخذت الشرفات القليلة المطلة في غلق أبوابها والانتظار لحدث جديد ..

لم يبق إلا صاحب المقعد الذي توجه إلى ناصية الرصيف بجوارها المقابل لحانوته، وجلس عليه صامتًا يبتلع الوقت ومرور الأزمنة، ومرّت بعض الجماعات المتفرقة أمامهما وهم ينثرون على الفتاة وعليه نظرات مزجت التساؤل بالدهشة عما يفعلانه في العراء وهم جلوس، نظر إليها مرة أخرى لوجهها الأبيض وعينيها المطبقة وجلسة الإعياء، اتجهت يده إلى الزجاجة التي أصبحت دافئة، تناولها، ونظر إلى الشمس التي لم تعد حارقة كما كانت، ثم إليها، وأخذ في الارتشاف على مهلٍ انتظارًا لشيءٍ ما يحرّك أحداث هذا اليوم!     

1 comment:

محمد أبو الفتوح غنيم said...

لعله فقري أو لعله ندرة ما أحبه من القصص

بعيدا عن فكرة هذه القصة القصيرة والتي لم أفهمها كما ينبغي -أظن هذا- فإن الشخوص فيا متوازنون في رأيي وكل قام بدوره دون زيادة أو نقص وكأنني أشاهد الحدث بعيني في الشارع

لا أدري أهي بقلمك أم من منقولك لكنها على كل حال جيدة وأعجبني البناء النفسي والاشتراك اللحظة في اكثر من حدث خاصة عندما استنكرت نظر الشاب إليها

أتمنى لك دوام التوفيق وأعتذر لتقصيري تجاه مدونتك الجميلة