Tuesday, July 28, 2009

عزيزي القارئ ..


عزيزي القارئ ..

لما عرفتُ أنه ستبقي في الملزمة الأخيرة بعد نهاية القصة صفحات خالية، رأيت أن أستأذنك في كلمات أملأ بها بعض هذه الصفحات بمزيد من التوضيح لموقفي من مسألة قيامي بطبع ما تطيقه إمكانياتي من إنتاجي القصصي.

        فقد يتساءل البعض: أتهون التكاليف التي يتطلبها طبع هذا الإنتاج عند صاحبه إلى هذا الحد، رغم ما تعرفه عن ارتفاعها في هذه الأيام،وهل في إمكانه أن ينفق وحده على كل ما أنتج مع كثرة هذا الإنتاج؟! ..

وحتى لو استطاع فما هو ببالغ شهرة تعادل ذلك، ولن يكون لاسمه ذيوع بين القراء مدام يقوم بطبع أعداد محدودة للإهداء فقط، فهي لن تتداول إلا بين أعداد محدودة أيضًا من الناس، وما يجني من ذلك إلا ضياع ماله، وسيبقى كما هو في موضعه منزويًا في ركن حفي من الأرض لا يذاع له اسم ولا يشتهر له لقب.

ولا تظن يا صاحبي أني أعتبر خاسرًا ببذل ما أقدمه في هذا السبيل من مال .. كلا .. فأن الثمن الذي نسوقه من أجل إدراك هدف نحبه لا يعتبر خسارة، بل هو ربح ومكسب، أن المال مصيره في النهاية إلى زوار، لكن الفكر والرأي يظلان على مدى الزمان يستعصيان على الزوال والبلى .. وحفظ أفكارنا وآثار عقولنا بتسجيلها في كتاب مطبوع هو بمثابة إعطاء الحياة المديدة المتجددة لهذه الأفكار، نطالع بها الناس ونتحدث بها إليهم حتى بعد أن يزول وجودنا الجسماني من هذه الأرض.

ثم .. أن ذيوع الاسم والشهرة بين الناس وإن كانا في طبيعة البشر شيئا مرغوبا .. إلا أنه عندهم ليس في درجة واحدة .. فعند البعض تتخذ الرغبة شكلا حادا يسعى إليها بأي طريق .. وعند آخرين - وربما كانوا قلة - لا تزيد عن كونها مجرد أمنية يسعد أحدهم إذا تحققت، لكن لا تمثل عنده أي مشكلة إذا لم يظفر بها، وتظل فقط مجرد أمنية يحبها، إن واتته فرح، وإن فاتته لم يحزن ..

وحين أتحدث في هذا الأمر عن نفسي، فلا أظنني في حاجة إلى إقامة الدليل على أني في أي هذين النوعين يكون مكاني، وحسبي أن يعرف القارئ أني وقد بلغت هذه السن، وبعد كل هذه السنين التي شاء الله سبحانه وتعالى أن أبلغها، لم أحاول أن أفرض نفسي على أحد، وحتى الأصدقاء اللذين للكثير منهم صلات وثيقة بالصحافة ودور النشر، وبعضهم زميل دراسة وبيننا صلة مستمرة، وفي استطاعتهم - لو طلبت منهم - أن يقدموني لمن لهم في مجال النشر تأثير، لكنّي لم أفعل .. ولن أفعل .. لأني أرى أن من حق الصديق على صديقه أن يفكر بدافع من نفسه في تقديم العون له متطوعًا، دون انتظار لرجاء من صديقه، فإذا تقاعس عن التطوع لخدمته والسعي له عند أصحاب الشأن كان على الآخر اعتزازًا بنفسه أن ينأى عن الرجاء حتى لو ترتب على ذلك فوات مصلحته.

هذا رأي أراه، ألتزمته طوال حياتي، وقد ترتب عليه ما ترتب مما هو واقع الآن، وقد تكدست مؤلفاتي في أدراج مكتبتي وهي مخطوطات لم تعرف الوسيلة إلى المطبعة، إلا ما سمحت به ظروفي المادية على فترات متباعدة من السنين.

وهنا أحب أن أدفع عن نفسي تهمة قد تراود ذهن القارئ فيظن أن أعراض الناشرين عن إنتاجي نتيجة لضعف هذا الإنتاج، وأنه دون المستوى الذي يشجعهم على قبول طبعه على نفقتهم فيكون لهم العذر.

وأبادر بإيراد مثال سريع أزيل به ما خطر لهذا القارئ، ففي عام «1957» نظمت إدارة الثقافة العامة بوزارة التربية والتعليم مسابقة في أدب المعركة، وتقدمت بمجموعة من القصص فازت إحداها وهي بعنوان: «لا أدري»، هذه القصة التي فازت بجائزة في مسابقة عامة لم تقبل نشرها أي صحيفة أو مجلة، ولا أظن أحدًا يمكن أن يتهم قصة كهذه بأنها أقل من أن تستحق النشر، ومع ذلك فقد أغلقت كل الأبواب دونها.

وأخيرًا، أن ما نشر .. وما قد ينشر من بعد كان وسوف يكون في حاجة إلى سعي حثيث وسؤال دائم وتذكير مستمر، ومشاوير متكررة يجد الإنسان فيها حرجًا كثيرًا، وتحميلا لنفسه من مشقة السؤال - والسؤال ولو عن حق ثقيل - ما قد يمنعه من المتابعة والاستمرار ليضيع وقته ويهمل إنتاجه.

فماذا لو أن المسئولين عن النشر في كل مجالاته جنّبونا هذه المشقة وهذا الحرج؟!، ماذا لو جعلوا الإنصاف رائدهم .. فجعلوا القاعدة عندهم في قبول أي إنتاج أو رفضه صلاحية هذا الإنتاج أو عدم صلاحيته بقطع النظر عن اسم مؤلفه .. أنهم إن فعلوا أنصفوا .. وأتاحوا الفرصة للجيد أن يأخذ طريقه ويتسيّد .. وسدوا الطريق أمام الرديء مهما كان وضع صاحبه وقدره بين الكتّاب.

أرجو .. وبالله التوفيق.
في 14/3/1987
•••

هذا ما وجدته فنقلته في الصفحات الأخيرة عند انتهاء قراءتي لإحدى أعمال الكاتب الأديب الراحل «عبد الحميد النخيلي»، وهو أحد سكان مدينتي، رحل منذ سنوات وما كنت أعرف عنه شيئًا إلا قريبًا، وما قرأتموه له الآن لا يحتاج لتعليق من أحد، رحمه الله فقد صبر طويلا ونال قليلا في هذه الدنيا، فلا تحرمه من سعة نعيم الآخرة!   

No comments: