Wednesday, March 25, 2009

الأستاذ عين




قرأت كتاب «الأسرار السياسية لأبطال الثورة المصرية وآراء الدكتور محجوب ثابت»، وهو كتاب قديم يتحدث عن ثورة 1919 وعن حياة د.محجوب ثابت بتركيز خاص على حياته السياسية والاجتماعية، ووضعه الأستاذ صالح السوداني

قرأت:

"قلت: ما رأيك يا دكتور في الأستاذ «ع ...»؟
قال: هو كاتب لا شك في أنه واسع الاطلاع، له أسلوبه الخاص، على أنه أهوج غضوب، يغضب بلا سبب، مغرور، مادي، أناني، حقود، إذا رأى شابًا يكتب في جريدة أو مجلة، إذا لم تكن كتابته مصحوبة بالمدح فيه والقدح في خصومه، أنكر عليه القدرة على الكتابة، وهو ملحد، يقول الشعر سخيفًا، وسمجًا باردًا لا روح فيه ولا حرارة، ثم يزعم أنه بذّ الأولين والآخرين، هو من حملة ألوية الكذب والاختلاق، شؤم على نفسه، وعلى غيره، حقد على شوقي حيًا، وأنكر عليه شاعريته ميتا، هو مغترّ بنفسه، يدعى أنه شاعر الكون الذي لم يُخلق مثله، وليته يعتقد أن الذي خلقه هو الله، فلعله يزعم أنه خلق نفسه."

قرأت هذا الوصف مرّة وأثنين وثلاثة، فهذا رأي قاسي جدًا، نعم أنه أورد بعض الآراء السلبية الأكثر بشاعة في وصف بعض الشخصيات اللامعة في عصره، والتي حجب مؤلف الكتاب اسمها مكتفيا بالأحرف الأولى، مثل رأيه في الدكتور «ز.م» والذي هو حسب رأيه أناني أيضًا وحسود وآدمي سفيه، سفاهته ممزوجة بالغرور والجنون؛ وعندما سأله مؤلف الكتاب بعد كل هذا القدح في الدكتور «ز.م» عن إن كان له حسنة؟!، فأجاب الدكتور محجوب بقوله: إنه الدليل القائم الحي على صدق الحديث الشريف وحكمته "لا تعلموا أولاد السفلة العلم" (!!)

وربما تبادر إليك مثلما تبادر إليّ أنه يقصد الأستاذ «عباس محمود العقاد»!، وأرجو جدًا أن أكون وإياك على خطأ في أن يكون ذلك الرأي المثير للدهشة في حق شخصية أخرى غير شخصية الأستاذ العقاد، وفي اعتقادي أن هذا الرأي إن كان في حق الأستاذ العقاد فهو قد صدر في أحسن الأحوال ما بين سنة 1935 إلى سنة 1945، أي في السنة التي ابتدأ فيها العقاد بالتعرض مجددا لأدب شوقي بعد وفاة الأخير سنة 1932، وبعد أن أشبعه نقدًا قبل وفاته في كتابيْ «الديوان» و«قمبيز في الميزان»، واخترت هذه السنة لأن د.محجوب ثابت ذكر أنه أنكر شاعريته حيا وميتا، أما سنة 1945 ففيها توفى د.محجوب صاحب هذا الرأي.

وهذه النقاط هي التي أثارت سرعة تبادر اسم العقاد إليّ:

يقول د.محجوب
" هو كاتب لا شك في أنه واسع الاطلاع، له أسلوبه الخاص"

وهذا هو العقاد بكل تأكيد، كاتب واسع الإطلاع وموسوعي، وأسلوبه ذات خصوصية واضحة.

يقول د.محجوب
"على أنه أهوج غضوب، يغضب بلا سبب"

والعقاد معروف بعصبيته الشديدة ونقذه اللاذع لمن يهاجمه ويشهد على ذلك الكثير.

يقول د.محجوب:
".. يقول الشعر سخيفًا، وسمجًا باردًا لا روح فيه ولا حرارة، ثم يزعم أنه بذّ الأولين والآخرين"


والعقاد من المعروف عنه أنه صاحب شعر صعب، ومعاني تحتاج إلى الصبر حتى نتناولها بالفهم، وعندما رثاه عزيز أباظة تعرض في قصيدة الرثاء إلى القول الشائع بصعوبة أسلوبه الشعري، ويدافع عن صديقه وأستاذه فيقول مخاطبًا له:

رُبَّ مُدامٍ عابها نَاهلٌ ** والعيبُ في الناهلِ لا في المُدامْ
أنتَ تناجي العقلَ في سَبحهِ  **  ويقتضي كلّ مقالٍ مقامْ
فأنتَ مُحتاجٍ لعّزمِ الكلامْ ** ولستَ مُحتاجًا لسَجعِ الحَمامْ


وقال الشاعر أحمد الزين فيه:

ألا أبلغ العقاد تعقيد لفظه ** وشعره كالنبت ذاوٍ ومثمرِ 
يحاول نظم العجم لا يفوته ** ويبغي قريض العُرْبِ لكن يقصرِ


يقول د.محجوب:
".. ثم يزعم أنه بذّ الأولين والآخرين، هو من حملة ألوية الكذب والاختلاق، شؤم على نفسه، وعلى غيره، حقد على شوقي حيًا، وأنكر عليه شاعريته ميتا، هو مغترّ بنفسه، يدعى أنه شاعر الكون الذي لم يُخلق مثله، وليته يعتقد أن الذي خلقه هو الله، فلعله يزعم أنه خلق نفسه"


لو افترضنا أن هذا الرأي في العقاد، فالذي جعل د.محجوب يقول ذلك هو حادثة مبايعة طه حسين للعقاد لحمل لقب أمارة الشعر ولوائه عقب وفاة شوقي، وسكوت العقاد عن هذه المبايعة بشكل يوحي أنه ارتضاها، إذن، عندما اسمع أن صاحب مثل هذا الشعر الصعب قد حصل على لقب أمير الشعراء بعد شوقي، فسيكون رأي منصف أن يتهمه محجوب ببرودة الشعر والإدعاء بإنه شاعر الكون!، وأما من ناحية إنكار شاعريته حيًا وميتًا فهذا معروف، ويكفي معرفة أن د.محجوب ثابت كان صديق مقرّب من أمير الشعراء شوقي، وبينهما مواقف ومداعبات لا تحصى، وكان يقدّر للغاية مكانة شوقي الشعرية ويستشهد بأشعاره كثيرًا، لذلك فعندما يقول بأن الأستاذ «ع» من حملة ألوية الكذب والاختلاق، فهو يقصد إذن الأدلة التي ساقها العقاد في إنكار شاعرية صديقه شوقي تمامًا في مقالاته وكتبه.


 يقول د.محجوب:

مغرور، مادي، أناني، حقود، إذا رأى شابًا يكتب في جريدة أو مجلة، إذا لم تكن كتابته مصحوبة بالمدح فيه والقدح في خصومه، أنكر عليه القدرة على الكتابة، وهو ملحد ..


أما الإلحاد(!!)، فالعقاد يبدو من خلال كتبه الإسلامية العديدة رجلا مؤمنا شديد الإيمان واليقين، ويحفظ القرآن ويلمّ بالحديث والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بأكمله، هذا ولا نزكّي على اللهِ أحدًا، وتذكرت موقفًا نقله لنا أنيس منصور عن العقاد، يقول أنيس منصور:

«وكان العقاد إذا غضب يقول: "عندما يحاسبني الله يوم القيامة فإنني أقول له كيف تحاسبني وقد خلقتني في عصر فلان من الناس!"
وهذا الفلان يكون زعيمًا أو وزيرا أو كاتبا، على حسب الظروف.»

فهنا مع هذه العبارة قد أتصور مناسبة وصف د.محجوب للعقاد بأنه ملحد، وحاشاه أن يكون ذلك، وخاصة أنه ذكر قبل ذلك بأنه "أهوج غضوب"، ثم أن العقاد كما قال عنه سعد زغلول: "كاتب جبار المنطق"، وعلم المنطق يخلع على الناطقين والعاملين به لقب الإلحاد والزندقة، فالاتهامات لصيقة به منذ القدم.

أما مغرور فهذا يسمي بصفة أخرى وهي: الاعتداد بالنفس والإباء، والعقّاد معتدّ بنفسه كثيرا، بدرجة قد يصوّرها البعض على إنها غرور.

أما المادي، فهذه عجيبة!، فالعقاد زاهد في ماديات الحياة بمعناها المعروف، فهذه الصفة وصفة الأنانيّ والحقود أيضًا أعطيا لي الأمل الضئيل في أن د.محجوب ربما يقصد أحدا آخر، ولكن مَن هو؟ .. لا أدري.

ويلاحظ أن الاسم الوحيد الذي اكتفى المؤلف بإيراد الحرف الأول فقط من اسمه، هو اسم الأستاذ «ع»، أما باقي هجاء المشاهير فكان يورد أول حرفين من اسم الشخصية المنتقدة، وجعلني هذا أرتاب، لأن الأستاذ عباس محمود العقاد في بداية حياته الأدبية كان يذيّل مقالاته بهذه الطريقة «ع. م. العقاد»، ثم ما لبث أن عَدل عن ذلك لسخرية البعض من هذه الطريقة ومناداته بسببها بـ«عم العقاد»‍!، إذن فربما كان هناك مبرر للاكتفاء فقط بالإشارة بأول حرف من اسمه .. لا أدري.

ومازلت على أمل أن أجد شخصية أخرى تبدأ بحرف العين ظهرت في النصف الأول من القرن الماضي، وتكون هي مَن يقصدها د.محجوب ثابت في هجائه الشنيع هذا .. ويبقى السؤال مَن هو أستاذ «ع»؟

Wednesday, March 4, 2009

وفشل في كتابة القصة

عامل إثارة!

تنهّد طويلا، فمجموعة الأوراق مازالت بيضاء أمامه ولم تستنشق بعد رائحة الحبر الجاف، وضع القلم جانبًا ونهض إلى رفوف الكتب القليلة التي تشكّل مكتبته، قال متحمسًا «حسنًا! .. ليس الأمر بهذه الصعوبة»، تناول إحدى الكتب عشوائيًا، وأردف «.. مهما يكن!، فسأجعل أول ما يقع تحت ناظريّ هو موضوع قصّتي الأولى! .. مهما يكن!».

وتكوّنت سريعًا لديه أفكار وتفاصيل صغيرة لتساعده في تحويل هذا الأمر الحماسيّ إلى أحرف وكلماتٍ تُسطر فوق مجموعته الفاخرة المصقولة من الأوراق البيضاء، الذي جلبها هذه الليلة فقط كي يحاول للمرة الأولى كتابة قصة قصيرة، فإن تناول كتابه عن الحرب العالمية الثانية، فسيجسّد حدثًا من أحداث هذه الحرب التي يعشق قراءة تفاصيلها، وإن كان كتابًا قديمًا لوالده الطيّب الذكر عن الإمام الغزالي، شيخ والده المفضل، فما أسهل أن يرسم لحظة من لحظات معاركه الفكرية العديدة وحياته الصوفية بأسلوب يجاهد لأن يجعله أشبه شيئًا بالأسلوب القصصي، وإن تناول كتابه عن أمراض الجهاز الهضمي الذي اشتراه قريبًا لا شيء إلا لأنه تذكر، عندما لمح عنوانه عند بائع الصحف اليومية، مقولة سمعها يومًا من جدّته وهو صغير «المعدة بيت الداء»، فشعر حينئذٍ بفضول العلم وبرغبته الغامضة في أن يكون أكثر حكمة من أصحاب التجاريب ذوي السنوات التي لا يتذكرها أقاربهم أنفسهم إلا بجهد، فهم يقولون في يسرٍ لمن يسأل «أوشك أن يتمّ المائة من العمر!»، فإن كان هذا الكتاب الطبي، فالأمر يسير له، سيستعين بعالم الخيال، وسيجعل تلك القصة الأولى عن رحلة خيالية تقوم بها كائنات ضئيلة للغاية داخل أمعاء الإنسان، «لمَ لا؟!»، تساءل، وهو ينظر إلى إعلان القصة القصيرة أمامه، فهو لا يعلن شيئًا عن نوعية هذه القصة، «مَن يهتم؟!، فلتكن إذن قصة للأطفال .. للناشئة .. للشباب .. للكهول .. للخرف! .. مَن يهتم؟!».

ونظر إلى الكتاب الذي تناوله عشوائيًا، وقرأ العنوان «مكاشفة القلوب المقرب لحضرة علام الغيوب»، لم يستكمل قراءة الغلاف، فلا شك أنه للإمام الغزالي من مجموعة كتب والده القديمة، وأخذ يتنقل بين الصفحات بلا هدى لعلّه يجد مادةً مناسبة لبناء قصة قصيرة.

 قرأ:
 «أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم لا يُدرك إلا بترك النعيم»

قال متهكمًا:
«لا ينفع هذا يا إمام!، أريد مادة قصصية لا عبارات منمّقة!، ثم أنني لا أملك نعيمًا لأتركه»

قرأ:
«.. وقيل لبعضهم: لو تزوّجت!، قال: لو قدرتُ أن أطلّق نفسي لطلّقتُها، وأنشد:
تجرّد من الدنيا فإنك إنما     سقطتَ إلى الدنيا وأنت مجرّدُ»

قال متململاً:
«يا إمام!، لا أحب هذا الشعر القديم الذي لا أفهمه!، ثم أنني أريد الزواج أيضًا ولستُ زاهدًا فيه!»

قرأ:
« .. ويحكى إن جماعة دخلوا على "الشبلى"، رحمه الله تعالى، فقال من انتم؟، قالوا: نحن أحباؤك!، فأقبل ثم رماهم بالحجارة، فهربوا من أمامه، فقال لهم لمَ تهربون مني؟، لو كنتم أحبائي لما فررتم من بلائي!»

قال متبرمًا:
 «لا يصلح هذا يا إمام!، كيف يمكنني الإضافة إلى تلك القصة .. أأتركها هكذا .. إذن ماذا فعلتُ؟!»

وألقى بالكتاب بعيدًا في سخطٍ واضح، ولملم مجموعة أوراقه البيضاء في يأس، وتنهّد مرةً أخرى في استسلام، وفي بساطة أخذ القلم ووضعه برفق فوق الجريدة اليومية ليستخدمه فيما بعد لإنهاء الكلمات المتقاطعة، فقد أدرك انه يجهل كيفية ابتداء قصته القصيرة، كيفية العثور على عامل الإثارة الذي يلهب شرارة الإبداع الأولى، كيفية أن رائحة الحبر تكفي وحدها أحيانًا لتثير شوق الأوراق لتقترب من سنّ القلب المدبب، ونسيَ أن يلعب على وتر شوق الأوراق ولهفتها الدائمة للعناق، مسكين!، لقد كانت الفرصة أمامه طوال هذا الوقت.