Monday, June 27, 2011

الفرزدق 1


كان أول عهدي بالفرزدق هو كتاب مختارات أشعاره، وفي الحالة العادية كنت سأعتبره أبغض شعراء العالم إليَّ على الإطلاق، وذلك لفرط ما تجنّى جامع المختارات في مقدمته وفي مختاراته على شخصية الفرزدق، ونسب إليها كثير من الأمور الشانئة والصفات المذمومة، ولم يكتف بهذا وإنما تحرّش بشاعريته كثيرًا، من خلال حديثه عن سطوات الفرزدق على أبيات غيره من الشعراء وضمّها إلى شعره، كأن تلك عادة دائمًا ما يفعلها، وكذلك لم يعجب جامع المختارات أن قصيدة: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته، والبيت يعرفهُ والحل والحرمُ، التي قالها الفرزدق في سيدنا علي بن الحسين، وتعرض بسببها للسجن، لم يعجب جامع المختارات أن هذه القصيدة الطاهرة للفرزدق الفاسق!، فأنكر نسبتها إليه – ولم يكن هو أول من أنكر نسبتها إليه – هذا بالإضافة إلى المختارات ذاتها، فقد اكتفى بأجزاء القصائد السائرة المشتهرة له في النقائض والهجاء، ومختارات من قصائد أخرى لا توضّح غير صورة واحدة أراد الجامع أن يبرزها!

هذا الكتاب الذي جعلني أمقت كتب المختارات الشعرية، فرؤيتك للشاعر قاصرة جدًا، ستقولون أن هذا أمر بديهي!، نعم!، لا ريب!، ولكن تعلمناه بالتجربة الصعبة!!

وبقى أثر كتاب مختارات الفرزدق في داخلي كثيرًا، وما هدأ إلا بعد أن أحضرت نسختي من ديوان الفرزدق الضخم!، أعترف أنني استقلته في البداية، واستثقلت أسلوب الفرزدق «البدويِّ» في الشعر!، وكذلك قلة تنويعاته على أبحر الشعر العربي، وميله إلى استخدام بحر واحدٍ بصفة غالبة، فمللت كثيرًا جدًا وكانت الشرح على الأبيات غير كافٍ ولا وافٍ على أية حال!، ولكنني قد دائمًا عندما أجد الوقت وأركن إلى الراحة أمدّ يديَّ إلى ديوانه وأذوب فيه، وقصائد الفرزدق مرهقة!، فأقضي ليلي هكذا ولا ينزعني عن ديوانه إلا سلطان النوم!، إلى أن وجدت أخيرًا نَفَسَ الفرزدق!، وهذ معناه عندي أن شاعرية صاحب الديوان حقيقية!، وأنه مطبوع على قول الشعر دون تكلّف، وأن شخصيته الآن بارزة أمامي على صفحات الديوان وعلى صفحات أخباره المتفرقة في كتب الأدب.

ثم خطرَ لي أن أوهم نفسي بأنني مَن أوكلته دار النشر كي يجمع لصالحها مختارات من شعر الفرزدق للنشر، بدلا عن كتاب المختارات الكارثيِّ الأول، وبالتأكيد نهضت بهذه المهمة الوهمية في نشاط، وأخذت أضع إشارات حول الأبيات الفاتنة التي توضح شخصية الفرزدق تجاه أهله وقومه ومثله الأعلى في الحكم والخلافة، وعن وفائه لزوجته وتشبيبه الرقيق بها في عديد من قصائد الديوان، وعن حبه الجم لأبنته، وعن تقديسه للمثل الأعلى في شخصيات الممدوحين، وعن جرأته في قول الصدق وإن جرّ عليه الويلات، وعن رثائه ومديحه الصادقيْن في عمر بن عبد العزيز، رغم أنه لم ينل منه – أي من عمر رضيَ الله عنه – نائلةً!

لعل للحديث بقية، فقد كنت أريد هذه الليلة أن أكذّب إحدى القصص التي نقلها صاحب الأغاني عن الفرزدق، ولا نخرج منها بشيءٍ إلا أن الفرزدق حاسدٌ لئيم لا يحب الخير لغيره!، وفوق هذا فالقصة في ذاتها متهافته كثيرًا، هي قصة «نصيب» الشاعر مع الفرزدق، ولكن يا لهذا التدوين اليومي!، لا يترك متسعًا للتقصّي واليوم شارف على الانتهاء!!، ولكن .. لعل للحديث بقية!

No comments: