Friday, June 3, 2011

والد مَلَك




تهزّني هزًا هذه الأبيات من رثاء مَلك حفني ناصف لحافظ إبراهيم، قال وقد استحضر روحها أمامه:

..

وَتَرَكتِ شَيخَكِ لا يَعي 
هَل غابَ زَيدٌ أَو حَضَر

ثَمِلاً تُرَنِّحُهُ الهُمومُ
إِذا تَحامَلَ أَو خَطَر
                      
كَالفَرعِ هَزَّتهُ العَواصِفُ
 فَاِلتَوى ثُمَّ اِنكَسَر

أَو كَالبِناءِ يُريدُ أَن
يَنقَضَّ مِن وَقعِ الخَوَر

قَد زَعزَعَتهُ يَدُ القَضاءِ
 وَزَلزَلَتهُ يَدُ القَدَر

أَنا لَم أَذُق فَقدَ البَنينَ
وَلا البَناتِ عَلى الكِبَر

لَكِنَّني لَمّا رَأَيتُ
فُؤادَهُ وَقَدِ اِنفَطَر

وَرَأَيتُهُ قَد كادَ يُحرِقُ
زائِريهِ إِذا زَفَر

وَشَهِدتُهُ أَنّى خَطا
خَطواً تَخَبَّلَ أَو عَثَر

أَدرَكتُ مَعنى الحُزنِ
حُزنِ الوالِدَينِ  .. فَما أَمَرّ!


• •

لم يفعل حافظ شيئًا إلا التعبير بصدق عما أحسّه من حزن والدها الذي هو صديقه الحميم أيضًا، فمع أن القصيدة طويلة، والفقيدة كان تاريخها حافلا بالمواقف الشريفة والأفكار التقدميّة، ولكن حافظ في القصيدة مر بكل هذه المواقف مرًا، ولم يقف إلا على القشور عندما خطر له أن يتناولها بالرثاء في أبياتٍ لم تؤثر بي، وإنما كان المؤثر هو إلتفاته وإشاراته إلى والدها حفني ناصف بين بيتٍ وآخر في القصيدة، لدرجة أنها كادت تصبح قصيدة رثاء في حفني لا ابنته!، والغريب أن حفني توفى السنة التالية لوفاة ابنته من شدة الحزن عليها، ولم يرثه حافظ!، لأن البلاد كانت مشتعلة بصورة 1919 حينئذٍ!، وشوقي هو القائل عندما توفى المنفلوطي في نفس السنة:
مَن مات في فزع القيامة لم يجد
قدمًا تشيّع أو حفاوةَ ساعي!

   وإن تذكره بعد ذلك في شعره بثلاث سنوات في بيتين أثنين قالهما ضمن قصيدته في ذكرى وفاة الإمام محمد عبده، نحن لم نفقد شيئًا ، لأنه كما ذكرت كأنه رثى حفني في قصيدة رثاء ابنته

• •

لَكِنَّني لَمّا رَأَيتُ ..
حافظ

• •

أشعر في هذه الأبيات بوهن حفني وتعبه، وشدة ما رآه حافظ منه يوم وفاة ابنته، فكل كلمة استخدمها حافظ كانت في موضعها الأمثل تمامًا، فعندما أعيد بيني وبين نفسي ألفاظ القصيدة على سمعي ببطءٍ وتأن، عندما أفعل ذلك أخال الموقف حاضرًا أمامي كما رأه حافظ، وكل لفظة تعبر عن مدلولها تماماً وكأن حافظ خلق هذه الألفاظ العربية خلقًا بتركيبها وإيقاعها الداخلي لكي يصف بها ما رآه من حفني، وذلك بدلا من التقاط تسجيل مرئي له!
 ..

حفني كان حاضرًا وقتَ إلقاء حافظ لهذه القصيدة، وكان قد حضر حفل الرثاء محمولا لفرط ما به، واستمع إلى كلمات المؤبنين في هدوء صامت، ولكن عندما أتى حافظ، وألقى قصيدته، وأتى على القطعة التي اجتزئتها في بداية هذا الكلام، فعند هنا، بكى حفني بشدة، ولم يستطع حافظ إكمال القصيدة من بكائه، وأشفق عليه الحاضرون من شدة اللوعة والألم العظيم، ثم (عاد إلى بيته، ودخل مضجعه وأخفى رأسه تحت الغطاء، وبكى بكاءً مرًا، وأخذ ينشد بعض الأبيات بنشيج مؤثر، ثم فقد رشده بضعة أيام .. وأسلم روحه بعدها إلى بارئها)

صَبراً أَبا مَلَكٍ فَإِن
الباقِياتِ لِمَن صَبَر

وَبِقَدرِ صَبرِ المُبتَلى
طولُ المُصيبَةِ وَالقِصَر

كُن أَنتَ أَنتَ إِذا تُساءُ
 كَأَنتَ أَنتَ إِذا تُسَرّ

يا بَرَّةً بِالوالِدَينِ ..
أَبوكِ بَعدَكِ لا يَقِر

فَسَلي إِلَهَكِ سُلوَةً
لِأَبيكِ فَهوَ بِهِ أَبَرّ

..

حافظ



فمَا أَمَرّْ!

No comments: