Sunday, June 5, 2011

وراثة ..




كنت أحب لنفسي أن أكون من الوارثين!، وأستغرق بسبب ذلك في أحلام يقظة طويلة أعمل خلالها على نسج تفاصيل الحلم بيني وبين نفسي في دقة متناهية!، ولكن أيّ أرث، المعرفة!

كنت أتمنى لو توصلت البشرية إلى طريقة لنقل محتويات عقل إنسان إلى آخر بعد موته!، فيكتب العالم الفاضل في الوصية:

أوصي بنصف مالي بعد التوزيع الشرعي إلى فلان، وبمكتبتي إلى علان، وبقرنية عيني إلى المحتاجين، وبجزء المعارف الدينية والأدبية والعلمية من عقلي إلى فلان لأنني أفنيت عمري في تحصيلها، وأما الجزء الذي به التجارب والمواقف الخاصة بي فأوصي بإحراقه!، وأوصيكم بتقوى الله على كل حال!

فكانت تلك رغبة عزيزة عليَّ، كلما سمعت بوفاة أدب روائي أو مفكّر كبير أو عالم لغوي!، وأقول كَم سأرتاح من عذابي في تعلّم النحو لو أخذت جانب اللغة والنحو فقط من دماغ فقيدنا الجليل!، أو لو أخذت بعد موته قدرته على الفهم والتحدث والكتابة باللغة الإيطالية، لكي يوفّر عليَّ عناء سنوات في تعلم اللغات، ولكن من تواضعي الشديد سأرفض بإباء أن أخذ أيضًا من دماغه الجزء الممتلئ بمعارفه التي اكتسبها الفقيد من معرفته باللغة الإيطالية، وأقول لنفسي خلال الحلم الجميل، بأنني سأكتفي بمعرفة اللغة، ثم شكرًا!، سأقرأ بها بنفسي ما أريد من البداية!

ثم سعدت بأنني ليس الوحيد الذي تمنى تحقيق هذه الأمنية المثالية، فحفني ناصف – والد ملك – تمنى نفس الامر ولكن من الضفة الأخرى للنهر، فقال وما أبدعه:

أتقضي معي – إن حان حيني – تجاربي
وما نلتها إلا بطول عناءِ

وأبذل جهدي في اكتساب معارفٍ
ويفني الذي حصّلته بفنائي
؟!!

ويحزنني ألا أرى ليَ حيلةً
لإعطائها مَن يستحق عطائي!

إذا ورّث المثرون أبناءهم: غنىً
وجاهًا، فما أشقى بني الحكماءِ


ولا أخفي!، إني عندما أقرأ بيته (لإعطائها مَن يستحق عطائي!)، (أتنطط) في نفسي وأشبّ وأتطاول وأقول: أنا!، أنا!، أنا!

لا عن استحقاق!، ولكن ليقول أستاذنا حفني – لمَن يرغب في رفع يده ليأخذها هو الآخر - كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام (سبقك بها عكاشة!)

وأستاذنا حفني كريم معطاء سمح جواد، أنه يريد أن يعطي، بينما أنا عندما خطرت لي هذه الرغبة والأمنية لم أفكر إلا في جانب أن آخذ، واليد العليا خيرٌ من السفلى، ولكن من جهة أخرى ليَ عذر!، فما لديَّ لإعطائه وأنا محتاج حتى إلى معرفة الأساسيات وأعاني كسلا عقليا لا أستطيع الفرار منه!، فكل ما في وسعي هو أن أقول كما يقول الشاعر السوري مصطفى الحدري: 

قال لي هاتٍ!، وإني ألفُ محتاجٍ لهاتْ!


كان الأستاذ حفني كريم نعم!، على عكس توفيق الحكيم، التي تأبي صفة البخل أن تفارقه حيًا وميتًا، وليغفر الله لي الاساءة، توفيق الحكيم كتب عام 1959، مقالا قال فيه أنه يريد عندما يموت أن يسجل قبل ذلك خطبه بصوته تتلي على الحضور، وبدأ توفيق الحكيم الخطبة التي يريد أن يسمعها الناس بعد موته، بالقول:
سيداتي سادتي ..

أولا، فلتجفف السيدات أعينهن!، حتى لا يضيع كلامي بين الشهقات، وحتى لا تضيع الدموع طلاء وجوههن وصبغة شفاههن، وهذا هو المهم، فإني مازلت حريصًا على أن تكون المرأة جميلة، فالجمال هو العذر الوحيد الذي به نغتفر للمرأة كل تفاهتها وحماقتها ..

عفوًا، لقد نسيت إني مت!، وأنه ما كان يليق بي أن أوجه إليكن أيتها السيدات هذه الألفاظ في مثل هذه اللحظة الرهيبة، أنتن ولا رب تصغين إليَّ الساعةَ، والغظ بادٍ عليكن، ولولا جلال الموت لألقتن على قبري بأحذيتكن ذات الكعب العالي ..

حسنًا، دعونا لا ننس أنه أشتهر بلقب عدو المرأة :D

ولكن ما أغاظني أنا في خطبته الأخيرة بعد الموت، أنه لا يريدني أن أنعم بأحلام يقظتي، ولعن الأدب الذي أخذ منه نضاره عمره وضيّعها بين الأوراق، لذلك فهو يوصي بوضع جثته مع كتبه وإحراق كل ذلك معًا، لأن الله خلقه من لحم ودم ووضعه في دنيا جملة زاهرة، وقال له: انطلق وعش حياتك!، (فلم أفعل ذلك ولكني أحلت لحمي ودمي إلى ورق) كما قال الحكيم!

لا يريد أن يمتعنا بكتبه ومعارفه التي لم يدونها، حتى بعد أن صار ميتًا!، هل يوجد بخل أعمق من هذا!

ولكن .. رحمه الله وغفر له ورزقنا العلم النافع ونفعنا به!


No comments: