Tuesday, June 7, 2011

نظرات في الأدب المقارن من سرير المرض





لا شيء بي الآن إلا البرد والرشح والحرارة، والرغبة العارمة في إسناد الرأس إلى الوسادة والنوم، عسى أن يأتي الصباح بالعافية! ..

الأدب المقارن والمرضى الأربعة ..

المريض الأول: حافظ إبراهيم
وحافظ كما يعرفه أصحابه وندمائه، وهو أنس المجالس، ولا يتم السرور إلا به، فيجتمعون حوله من الصباح إلى المساء، وهويحدثهم ويطربهم، ولكن إذا مرض، ينكشف هذا القناع!، المريض لا قدرة لديه على الكلام وتحقيق الأنس لندمائه!، فلما مرض حافظ شقى بالوحدة، فقال يرسل شكواه في غرفته الخالية إلا منه:


مَرِضنا  فَما  عادَنا    عائِدُ
وَلا قيلَ: أَينَ الفَتى   الأَلمَعي
                      
وَلا حَنَّ طِرسٌ إِلى  
  كاتِبٍ 
وَلا خَفَّ لَفظٌ عَلى    مِسمَعِ

سَكَتنا فَعَزَّ عَلَينا 
  السُكوتُ
وَهانَ الكَلامُ عَلى   المُدَّعي


والمريض الثاني: العوضي الوكيل

وهو شاعر، ولكنه في مرضه أسعد حظًا من حافظ، فقد مر بتجربة المرض الشعرية وهو بين ابنيْه على السرير، فقال:

حوليَ أبنايَ في السرير، وجسمي
في تباريحٍ شدةٍ وعناءِ

مرَّضاني وأوسعانيَ رُحمَى
رُبَّ رُحمَى قامت مقامَ الدواءِ

يا جناحيَّ في الدُنا، أنا طيرٌ
ومطاري على ذرا الجوزاءِ

ابسما لي، وهدهداني، وقوما
فامسحا غيمَ عِلّتي وبلائي

وأوريا لي: أني برئتُ وأني ..
ناهضٌ من غدي، قويَّ المضاءِ

لا تقولا: نفديك!، بل لكما روحي
فداءٌ، وكل خصمٍ فدائي
!

ما أجمل قوله الأخير، لا تقولا نفديك!، بل لكما روحي فداء! .. مشاعر أبوة دافئة :)


والمريض الثالث: عزيز أباظة

وقد أصيب بالذبحة الصدرية أول مرة عام 1958، فتكلم عن مرضه وقال عن ذبحته الصدرية ووصايا الأطباء:

حرمتني لذائذَ العيش، والعيشُ
غريبًا منها: كبيداءِ قفرِ

كلُّ ما يُشتَهى: حرامٌ، وما لا
يُشتهَى: خاضعٌ لنهيٍ وأمرِ

ثم عرج على أسرته الصغيرة التي ستفقد إن مات الأب بعد وفاة الأم من قبل، فقال:

يا بُنيَّاتي اختشعنْ لأمرِ الله
وأصبرن .. كلُّ صبرٍ بأجرِ

لم أخلّف مالاً لَكُنَّ، ولكنْ ..
رُب ذُخرٍ أسمى من المال: ذكري

وبحسبي إني عففتُ، فذاقَ الناسُ
عُرفي، وآمن الناسُ شرّي

ما تدلّى شأني، ولا خاس عزمي
يوم تدعو العلا، ولا خسَّ أمري

..

مُذْ هَوَتْ أُمُّكُنَّ عنّي .. مغيبَ الشمسِ
في ريّق الصبا المُسبَكَّرِ

كم تمنيتُ أن يجاملني الله
فأُمسي وقبرها الطهرُ قبري!

ولكن الله لم يخيّب رجاءه في الذبحة الصدرية الثانية، فقد كانت القاضية!


والمريض الرابع: نزار قباني

وقد أصيب كذلك به مثل عزيز أباظة!، ونقلته زوجته بلقيس الراوي بالسيارة إلى المستشفى عندما فاجئته الذبحة الصدرية، وكانت بجانبه طوال الوقت، فكانت بلقيس زوجته هي قصيدته الجميلة التي قالها على فراش المرض:

ممنوعةٌ أنت من الدخول، يا حبيبتي ، عليه..
 
ممنوعةٌ أن تلمسي الشراشف البيضاء، أو أصابعي الثلجيه
ممنوعةٌ أن تجلسي.. أو تهمسي.. أو تتركي يديك في يديه
 
ممنوعةٌ أن تحملي من بيتنا في الشام..
 
سرباً من الحمام
 
أو فلةً.. أو وردةً جوريه..

ممنوعةٌ أن تحملي لي دميةً أحضنها..
 
أو تقرأي لي قصة الأقزام، والأميرة الحسناء، والجنيه.
 
ففي جناح مرضى القلب يا حبيبتي..
 
يصادرون الحب، والأشواق ، والرسائل السريه\

2

لا تشهقي..
 إذا قرأت الخبر المثير في الجرائد اليوميه
 
قد يشعر الحصان بالإرهاق يا حبيبتي
 
حين يدق الحافر الأول في دمشق
 
والحافر الآخر في المجموعة الشمسيه..

3

تماسكي.. في هذه الساعات يا حبيبتي
 
فعندما يقرر الشاعر أن يثقب بالحروف..
 
جلد الكرة الأرضيه.
 
وأن يكون قلبه تفاحةً
 
يقضمها الأطفال في الأزقة الشعبيه..
 
وعندما يحاول الشاعر أن يجعل من أشعاره
 
أرغفةً.. يأكلها الجياع للخبز وللحريه
 
فلن يكون الموت أمراً طارئاً..
 
لأن من يكتب يا حبيبتي..
 
يحمل في أوراقه ذبحته القلبيه..

4

أرجوك أن تبتسمي.. أرجوك أن تبتسمي..
 
يا نخلة العراق، يا عصفورة الرصافة الليليه
 
فذبحة الشاعر ليست أبداً قضيةً شخصيه
 
أليس يكفي أنني تركت للأطفال بعدي لغةً
 
وأنني تركت للعشاق أبجديه..

5

أغطيتي بيضاء..
 
والوقت، والساعات، والأيام كلها بيضاء
 
وأوجه الممرضات حولي كتبٌ أوراقها بيضاء
فهل من الممكن يا حبيبتي؟
 
أن تضعي شيئاً من الأحمر فوق الشفة الملساء
 
فمنذ شهرٍ وأنا.. أحلم كالأطفال أن تزورني
 
فراشةٌ كبيرةٌ حمراء..

6

أطلب أقلاماً فلا يعطونني أقلام...
 
أطلب أيامي التي ليس لها أيام
 
أسألهم برشامةً تدخلني في عالم الأحلام
 
حتى حبوب النوم قد تعودت مثلي على الصحو.. فلا تنام

7

إن جئتني زائرةً..
 
فحاولي أن تلبسي العقود، والخواتم الغريبة الأحجار
 
وحاولي أن تلبسي الغابات والأشجار..
 
وحاولي أن تلبسي قبعةً مفرحةً كمعرض الأزهار
 
فإنني سئمت من دوائر الكلس.. ومن دوائر الحوار..

8

ما يفعل المشتاق يا حبيبتي في هذه الزنزانة الفرديه
 
وبيننا الأبواب ، والحراس، والأوامر العرفيه..
 
وبيننا أكثر من عشرين ألف سنةٍ ضوئيه..
 
ما يفعله المشتاق للحب، وللعزف على الأنامل العاجيه
 
والقلب لا يزال في الإقامة الجبريه..

9

لا تشعري بالذنب يا صغيرتي.. لا تشعري بالذنب..
 
فإن كل امرأةٍ أحببتها..
قد أورثتني ذبحةً في القلب..

10

وصية الطبيب لي:
 
أن لا أقول الشعر عاماً كاملاً..
 
ولا أرى عينيك عاماً كاملاً..
 
ولا أرى تحولات البحر في العين البنفسجيه
 
الله.. كم تضحكني الوصية


الآن .. تصبحون على عافية :]

No comments: