Monday, December 12, 2016

والأمر لله





قرأت دراسة رائقة قصيرة كتبها أستاذنا د. محمود علي مكي، وعنوانها "الدهر والقدر في شعر المتنبي"، وقسّم فيها حياة وشعر المتنبي إلى ثلاث مراحل أو أطوار، أولهما مرحلة الصبا والشباب منذ أن بدأ يقول الشعر في الثانية عشرة من عمره تقريبًا وحتى اتصاله بسيف الدولة في الرابعة والثلاثين، وبحث د. مكي في شعر المتنبي خلال الفترة عن مرادفات كلمة الدهر والقدر، وبعد أن وضع استشهاداته من أبيات المتنبي أمامنا، خلص إلى هذه النتيجة:


"الدهر" عند المتنبي في هذا الطور من شبابه المفعم بالحماسة النابض بالتحدّي ليس هو القدر المحتوم الذي لا مردّ لحكمه ولا جدوى من مقاومته، بل هو مجتمع فاسد لا بد أن تغيّر أوضاعه بحد السيف، والشاعر الثائر لا يرى "حظّه" في الرضا بما قسم له، وإنما يرى المجد في المثابرة على العمل من أجل التغيير، سواء أبلغ هذا الأمل أم خذلته عنه وسائله


ويعيد هذا المعنى مرة أخرى بعد عدد آخر من الاستشهادات، فيقول عن معنى لفظ الدهر والقدر عند المتنبي في شبابه:

فهو لا يعني عنده ذلك المفهوم الغيبي القديم الذي يرادف القدر وما يقترن به عند البشر من استسلام وخضوع ذليل، وإنما هو مجتمع لا بد أن تُقلب أوضاعه، وتعبير المتنبي فيه اعتداد بإرادة الإنسان وحريته وقدرته على شق طريقه لنفسه


ثم تأتي المرحلة الثانية من حياة المتنبي، منذ أن قابل سيف الدولة وهو في الرابعة والثلاثين من العمر، إلى أن فارق بلاطه وهو في الثالثة والأربعين، وكانت هذه فترة مجد المتنبي، ففيه كان قاب قوسين أو أدنى في ظل فتوحات وانتصارات سيف الدولة، بالإضافة إلى ما بدأ يحققه من شهرة عريضة، وأما شعره في تلك المرحلة الثانية فقد زادت فيه نبرة الاعتداد بالإرادة الإنسانية وحدها وتحدّى الأقدار، واختفت ألفاظ القدر والدهر بمعناهما السلبي والجبري، إلا في موضعين اثنين من شعر هذه الفترة، وهما في كلمات د. مكي:

الحالة الأولى

 حينما يتحدث عن هزيمة يمني بها سيف الدولة، ولكن الضعف عنا لا يصل أبدًا إلى حدّ اليأس، بل سرعان ما تعود "للمتنبي" حميّته ورباطة جأشه، فإذا به يصوّر الدهر معتذرًا عما كان منه، و"سيف الدولة" قادرًا على التماسك واستعادة زمام المبادرة، كما نرى في قصيدته التي يذكر فيه وقعة نُكّب فيها المسلمون عام 339، حيث يقول:
الدهرُ معتذرٌ، والسيفُ منتظرٌ
وأرضهم لكَ مصطافٌ ومرتبعُ


والحالة الثانية

حينما يتحدث عن الموت في معرض الرثاء لشخص عزيز عليه أو على أميره سيف الدولة، فحينئذ يربط المتنبي بين الموت والدهر، فيدركه شيئ من التشاؤم الذي يكاد يخلو منه شعره في ظلّ فارس بني حمدان


ثم تأتي المرحلة الثالثة والأخيرة في حياة المتنبي متوجهًا في أولها إلى مصر فيمكث فيها أربعة سنوات ونصف، ثم يفارقها ويزل متنقّلاً بين العراق وفارس إلى أن لقي مصرعه وهو في الواحدة والخمسين من عمره، وفي هذه المرحلة الأخيرة يرى أمامه أن أحلامه باءت بخسران، وأن خيبة الامل الكبيرة تلوح له في الأفق، فلم يوفّق في مصر في الفوز بأي سلطان كان يريد أن يناله من وراء حاكمها كافور الأخشيدي، رغم طلبه هذا الطلب صراحة في مدائحه إليه، وأكثر من مرة، فكافور كان يخشى من طموحه، والمتنبي كان يرى نفسه أعلى من كافور في كل شيء، فظهرت النبرة الجديدة في شعره هذه المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته

وهي نبرة الحظ!، فمن النبرة السابقة التي كانت تتحدث عن تحدّى الإنسان للقدر والإرادة الإنسانية السامية، إلى نبرة جديدة تقول أن الأمر كله للحظوظ المقسومة بين الناس، وينتصر كافور على ثورة قامت ضده، فيمدحه المتنبي ويجعل في غرابة قصيدته في تلك المناسبة تدور كلها حول الحظ والسعد وحسن الطالع الذين كانوا بجانب كافور في ذلك الموقف
ويقول د. مكي هنا:


ولا غرو!، فهو لا يفسر اعتلاء كافور وأمثاله من "العبدي والموالي" على عروش الأمصار الإسلامية إلا بأنها ضربات حظ غاشم لا يعرف التمييز، وننبه هنا إلى كثرة الحديث عن "الحظ" في كافوريات المتنبي على نحو لا نرى له مثيلاً من قبل في شعره


ويزداد هذا الشعور في السنوات الثمانية الأخيرة من حياة المتنبي، وينتهي به الحال رويدًا رويدًا إلى الاستكانة القدرية العاجزة، وهي كما تقولها كلمات د. مكي الآسرة:

استكانة البطل الذي تحطّم سلاحه، ولم يبق أمامه إلا تجرّع الصبابة الأخيرة من كأس الهزيمة المرّ، ولنستمع إليه يقول في نبرة هادئة حزينة بطيئة الإيقاع وهو يتحدث عن الزمان:

صَحِبَ النّاسُ قَبلَنا ذا الزّمَانَا
وَعَنَاهُمْ مِن شأنِهِ مَا عَنَانَا

وَتَوَلّوْا بِغُصّةٍ كُلّهُمْ مِنْهُ
وَإنْ سَرّ بَعْضَهُمْ أحْيَانَا

رُبّمَا تُحسِنُ الصّنيعَ لَيَالِيهِ
وَلَكِنْ تُكَدّرُ الإحْسَانَا

وَكَأنّا لم يَرْضَ فينَا برَيْبِ الدّهْرِ
حتى أعَانَهُ مَنْ أعَانَا

كُلّمَا أنْبَتَ الزّمَانُ قَنَاةً
رَكّبَ المَرْءُ في القَنَاةِ سِنَانَا


ثم يأتي العام الأخير الذي لقي المتنبي فيه مصرعه، وتأمّل د. مكي بيتًا من قصيدة قالها المتنبي في مدح عضد الدولة، في ذلك العام الأخير نفسه، وهي من أخريات قصائده، ووجد فيه أقسى نبرات الاستسلام أمام القدر، والاعتراف بسطوته وقدرته الخارقة، فيقول د. مكي، أن المتنبي وصل الأمر به إلى حد الاعتقاد بأن المرء قد يخيب سعيه لا لشيء إلا أنه بذل غاية الجهد واستفرغ أقصى الطاقة

وهذا البيت هو:

وَالأمْرُ لله، رُبّ مُجْتَهِدٍ
مَا خابَ إلاّ لأنّهُ جَاهِدْ




وتذكرت كل كلمة من هذه الدراسة وأنا أنظر مرة ثانية إلى النعيّ الذي نعى به أحمد رامي صديقه المقرّب إبراهيم ناجي، فقد قال في ختام كلمته عنه أنه وبينما كان يجمع ما تفرّق من شعره ولم يُنشر خلال حياته، وجد قصيدة بخط ناجي يعود تاريخها إلى مارس 1953، وهو ذات الشهر الذي توفّى ناجي في الرابعة والعشرين منه، وذات السنة التي توفّى فيها، وظنَّها رامي آخر ما نظمه في حياته ولم يتمّها، وفيها يقول ناجي فيما يقول:



فقم نسخرْ من الدنيا
وقمْ نلهُ معَ اللاهي

طويتَ صحيفةَ الأمسِ
فدعها في يدِ اللهِ

هل الدنيا كما كانتْ
وماذا ينفعُ الوعظُ

وما عتبتْ ولا خانتْ
ولكن خانكَ الحظُّ

أردنا الجاه والذهبا
فلم يتلطّف المولَى

وهذا العمر قد ذهبا
وأحسنُ ما بهِ .. ولَّى



هذه الدراسة وهذا النعيّ مسّا وترًا!، أنظرتم إلى ما قاله المتنبي؟!: ما خابَ إلا لأنه جاهد!، وأنظرتم إلى قول ناجي: ولكن خانكَ الحظُّ!، وأنظرتم إلى عمر المتنبي وناجي المتقارب حين الوفاة!، أنها حياة وآمال وطموحات عريضة ثم يطويها الأجل!

والأمر لله!


No comments: