لا دفاعًا أو ردًّا لهذه الأكاذيب، ولكنها فقط
دعوة للاستمتاع الهازئ بهذا الأسلوب الذي يبرز الجانب القبيح من الصحافة،
الصحافة الصفراء، ولكن الذي يثير الأسى فقط وسط هذا الاستمتاع هو أن صالح جودت
توفّاه الله منذ أربعين عامًا فلم يعد بإمكانه الرد على هذا الهزاء، وكذا فأن
وقائع ذلك العهد تكاد تكون غائبة عن نظر الجيل الحاضر، ليقول أنه لا شك قد حصل هذا
الذي يحكيه هذا الصحفيُّ الأصفر الباهت
والمقالة منشورة في عدد جريدة التحرير، شهر يوليو، من
العام الماضي، تحت عنوان مثير:
كان النشاط الفنى للفنانة مديحة يسرى، قد تقلّص، فرأت أن تؤسس شركة للتسجيلات الفنية تحت اسم «شركة الموارد الثقافية والفنية»، شركاؤها كانوا من الكويت، ولذا فإن المقر الرئيسى للشركة كان فى الكويتذات يوم هاتفها رجل من جهاز أمنى مصرى طالبًا منها الاتصال بالشاعر الأستاذ صالح جودت
هنا انتبه: صالح جودت ليس عابرًا فى كلام عابر، إنه شاعر غنت قصائده أم كلثوم، وتغنى هو بكل الحكام من فاروق إلى السادات!
أحسنت "يوليو" لجودت (وهنا خطيئتها القاتلة)، فكان صحفيًّا لامعًا ورئيس تحرير وشاعرًا بالعامية والفصحى، هل سمعت أغنية وردة العذبة «روحى وروحك حبايب من قبل دا العالم والله»، إنها من تأليفه ومن ألحان فريد الأطرش، اختصارًا لم تؤذِ "يوليو" جودت أدنى أذى، ولكن ما فى القلب يظل فى القلب وقلب جودت كان ممتلئًا حتى حافته بكراهية يوليو، فما إن مات عبد الناصر حتى اندفع جودت يهجو كل فعلٍ يوليوىّ حتى لو كان فى عظمة بناء السد العالى، جودت كان يخمّر لفتنة أهلية عندما كتب معادلته الشهيرة التى تقول: "الماركسيون ملحدون، والمصريون متدينون، إذن الماركسيون ليسوا مصريين"
نعود إلى سياقنا فنرى أن مديحة يسرى قد اتصلت بصالح جودت كما أمرها رجل الأمن، فرد عليها جودت قائلًا: «لقد ألّفت كتابًا عن الرئيس الراحل، وبيقولوا ممكن تنشريه وتسجّليه كمان بصوتى، ماتفكريش فى الفلوس من ناحيتى"
كانت الدهشة ستشق مديحة إلى نصفَين، صالح جودت عدو يوليو ومفجرها كتب كتابًا فى مدح عبد الناصر، بل سيسجله بصوته على أشرطة كاسيت!، جودت الحريص على حقوقه المادية لا يهتم بالفلوس!
اللهو الخفى الذى كان قد اتصل بمديحة كان بطبيعة الحال قد رتّب الأمر مع جودت، وجاء له بحقوقه، اثنا عشر ألف جنيه مصرى. (انتبه نحن فى مطلع السبعينيات عندما كان الدينار الكويتى بجنيهَين وليس بخمسة وعشرين جنيهًا)
فى نوفمبر 1970، ظهرت نسخة الكتاب الجودتى ومعها شريطا كاسيت سجل عليهما صالح جودت كتابه المادح فى حياة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر البطل المغوار القائد الضرورة و .....
وكما تم التأليف والتسجيل بسرعة، جرى إخفاء جثث النسخ والأشرطةحفظ الله مقامك فلا تسل وأين ذهبت النسخ والأشرطة؟ يا صاحبى وأين ذهبت نسخ مذكرات سوزان مبارك التى تم طبعها بأغلفة مزيّنة بماء الذهب؟ هذه كتلك يا صاحبى
هل كفّ صالح جودت بعد تلك الواقعة الموثقة بالصوت والكتابة عن مهاجمة يوليو؟ بالطبع لا، لكل ظل حتى رحيله ويوليو له كجلد الأجرب للأجرب، لا يعرف الراحة حتى يحكه وتتفجر منه الدماء.
انتهى ما يخصّ صالح جودت من تلك المقالة، وأصدقكم القول
أنني أصبت بحالة من الذهول أثناء القراءة!، ليس بسبب تلك الأكاذيب المضطربة التي ساقها
في ذلك الأسلوب الركيك، ولكن من أجل هذه الجرأة اللا متناهية في رواية أحداث
مختلقة، والذي في وسع أدنى مطالع لما كتبه صالح جودت في الهلال أو المصوّر أو في
دواوينه المختلفة أو لمن ألمَّ بشيءٍ من سيرة الرجل أن يكتشف زيفها وكذبها منذ
اللحظة الأولى، كذبها تمامًا من ألفها إلى يائها وبشكل سافر!!، لن يدري حتى من أين
سيبدأ الردَّ، وعلى ماذا بالتحديد!
وأقرأتم ما قاله عن دليله على كتابة جودت لذلك الكتاب الذي
كان يوزّع مع شريط تسجيل في ذلك العهد في السبعينيات! (كانت وفاة صالح جودت عام
1977)، وكم أضحكتني هذه الكلمات:
وكما تم التأليف والتسجيل بسرعة، جرى إخفاء جثث النسخ والأشرطةحفظ الله مقامك فلا تسل وأين ذهبت النسخ والأشرطة؟ يا صاحبى وأين ذهبت نسخ مذكرات سوزان مبارك التى تم طبعها بأغلفة مزيّنة بماء الذهب؟ هذه كتلك يا صاحبى
طيّب ألم تفلت نسخة
واحدة!، صوتية أو مقروءة!، أي شيء!، ومَن الذي أخفاها ألم يُدفع مسبقًا ثمن
الكتابة؟!، طيّب، أين تلك المقالات الأخرى التي هاجم فيها عبد الناصر؟!، هل هاجمه
شخصيًا قطَّ من قبل؟!، هل قرأت ديوانه فعلا أو أي عدد من أعداد الهلال والمصوّر
الذي صدرت في عهد رئاسته لتحريرها؟!، ألا يمكنك من هذه المصادر المتاحة حتى الآن
ومئات مقالات صالح جودت المكتوبة فيها على مدار سنوات، أن تخرج لنا بمقالة واحدة
فقط تثبت سطرًا واحدًا مما اتهمته به كذبًا!، مقالة واحدة!
ولكن
أن يكون كلامك كله مبني على كتاب مطبوع حرفيًا وسمعيًا، أُخفيتْ جميع نسخه في نفس
لحظة صدورها ثم تطالبنا أن نصدق هذا لأن هذا عينه ما حدث مع مذكرات سوزان مبارك!
والطريف!،
أن ذاكرة هذا الصحفي مختلطة في ذكر الوقائع الحالية، فكتاب سوزان مبارك لم يكن
بمذكرات خالصة، وإنما كتاب بعنوان "أقرأ لي كتابًا" تتحدث فيه عن حفيدها
محمد علاء مبارك - رحمه الله، وكانت الجامعة الأمريكية في القاهرة تزمع طرحه لأول
مرة في معرض القاهرة للكتاب عام 2011، ولكن الثورة حالت دون ذلك لورود اسم
"سيدة مصر الأولى" على غلاف الكتاب، كأحد الأسباب التي قيلت حينذاك
لتراجع الجامعة الأمريكية عن قرار النشر، أو في سبب آخر أنه كان أمرًا مباشرًا من
أمريكا لجامعتها في مصر لتغيّر سياستها، وإن لم تمنع هذه الأسباب من تسريب موضوع
الكتاب ومقدمته ومحتويات فصوله وفقرات عدة منه على الإنترنت
بينما
مذكراتها الخاصة فإنها لم تنته منها بعد لتفكّر في نشره، حسب آخر الأخبار
المتداولة، فهذه المقالة الصفراء نُشرت في يوليو 2015، بينما جريدة أخرى نشرت في
أكتوبر 2016، خبرًا
عن المذكرات استهلّته قائلة:
قالت مصادر مقربة من "سوزان مبارك"، زوجة الرئيس الأسبق حسنى مبارك، إن المذكرات التى بدأت كتابتها منذ فترة قصيرة سيخصص فصل كامل منها عن حياة أسرة مبارك عقب ثورة 25 يناير 2011 وما أعقبها من أحداث بسجن الرئيس الأسبق ونجليه، حتى الآن، وكيف كانت تنفق الأسرة طوال تلك الفترة، فى ظل الأعباء الكبيرة التى كانت ملقاة على عاتقها والحياة المترفة التى كانت تعيشها .
وهذا
مرة ثانية عن الأحداث الحالية، التي لم يمر عليها سوى سنوات يسيرة، والتي عاصرها
الكاتب بأكملها، فكيف تتأتّي، يا تُرى، الثقة فيما يقول عند روايته عن أحداث لم
يعشها قط!
وأدري أن أجواء ما بعد الثورات والمحاكمات تعتبر أرضًا
خصبة لنمو هذه الكائنات الخبيثة، ولكن حالة الذهول تلك التي أصابتني، من حيث لا
أتوقّع، جعلتني أشعر وكأنني أقرأ أول مقالة صفراء في حياتي!
وهنيئًا لصالح جودت أجر هذه الغيبة!، إنه رُزقها دون
احتساب وهو تحت التراب!
No comments:
Post a Comment