Friday, December 16, 2016

عندما قال الإمام مالك: لا أدري!









تذكرت ما رويَ عن الإمام مالك، رحمه الله، عن كثرة ترديده لكلمة: "لا أدري!"، أو "لا أحسن!"، والتي منها أن رجلاً غريبًا أتى إليه بمسألة حمّلها إياها قومه، وعندما أتى الرجلُ الإمامَ قال له قبل أن يسأل مسألته أنه قد أتاه من مسيرة ست أشهر ليسأله هذا السؤال، ثم ألقى سؤاله، فقال له الإمام مالك:
لا أدري!
 فقال له الرجل متعجبًا:
أيُّ شيءٍ أقولُ لأهل بلدي إذا رجعتُ إليهم؟!
 فقال له الإمام:
قلْ لهم، قال مالك: لا أدري!

وصفحات تراجم كبار فقهاء المسلمين تكاد تفيض بهذه المواقف المماثلة، وبكثرة قولهم "لا أدري"!، وهنا قرأت على موقع شبكة الألوكة بحثًا صغيرًا عنوانه: "معنى قول الائمة: لا أدري"، لمحمود شعبان، تعجّب فيه من هذه القصص المتواترة عن الإمام مالك:

فليس من المعقول أن يُسأل الإمام عن (40) أو (100) مسألة، فلا يعرف إجابة (90%)  منها، وهو مَن يشار إليه، وقد ملأ الدنيا علمًا وفهمًا وفقهًا، والأئمة يذكرون هذه الحكايات في توقِّي مالك عن الفتوى إلا فيما يحسنه ويعلمه، ويعدُّونه من فضائل الإمام رحمه اللَّه.


ثم ينتهي إلى القول:

والأقرب أن عدم معرفة مالك أو غيره من الأوائل الإجابة عن الأسئلة، ليس لعجزه عن التكلم فيها برأي، فالكثير يستطيع الكلام في أغلب أو كل المسائل برأي ..

ولكن والله أعلم عدم معرفة مالك الإجابة، يعني عدم حفظه لأثر عمن سبق في ذلك؛ لأنهم كانوا يعتمدون غالبًا على الأثر (قرآن، سنة، قول صاحب، قول تابع)، ويعزفون عن الرأي.

فقد كان مالك رحمه الله يقول: «ينبغي للعالم أن يألف فيما أَشْكل عليه قول: لا أدري؛ فإنه عسى أن يهيَّأ له خير». وقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي». وقال: «الملائكة قد قالت: {لا علم لنا} [البقرة: 32]»


وعقّب أحدهم مؤيدًا صاحب هذا البحث ، ونقل له ما قرأه في كتاب إعلام الموقعين، لابن القيم، وقال إن ابن القيم في كتابه استقصى هذه المسألة، إلى أن أجملها في قوله:

قد يتوقف في الفتوى؛ لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين


ولكن الطريف في الأمر، إنه لم يُنقل إلينا قط فيما أعلم أيُّ من تلك المسائل التي ردّ الأئمة فيها بقولهم لا أدري!، ولا أدري إذا كان هذا تأدبًا من أصحابهم الذين نقلوا عنهم هذه المواقف، لأننا نعلم ويعلمون ما الذي سيحدث إن نقلوا لنا هذه المسائل غير المجابة: سيتلقفها ضمن من سيتلقفها: المُناوِئون والمغرضون وحديثو الدخول في طلب العلم وأنصاف الفقهاء، وكل مَن هبّ ودبّ، وسيسطرون الرسائل الطوال في حلّ هذه المسألة غير المجابة من إمام أهل المدينة، فأي فخر في إجابتهم على سؤال قال فيه الإمام مالك: لا أدري!، بينما هم الذين يدرون!

فذكرها كان سيفتح بابًا للمراءاة، ومَن يدري، فربما إن وُجدت الصحافة الصفراء في ذلك العهد فستخرج لتقول كيف جعلتم على رأس الفتيا ذلك الرجل الذي لا يفتأ عن ترديد كلمة" لا أدري"! وسيعدّونها من المضحكات المبكيات في ذلك العصر الأسود الذي تُعطى فيه المناصب لغير أصحابها الجديرين بها!

ولكن فوق هذا كله، فإنَّ انتشار هذه المواقف عن الائمة يرجع إلى كثرة إلحاح الناس عليهم لأن يقولوا برأيهم في تلك المسائل وهم يرفضون ويتحرّجون من إبداء رأي، والنظر لهذه المواقف من زاوية أخرى يقول أن هؤلاء الأئمة الأعلام أفراد معدودون وسط جم غفير، أي أن الناس اعتادت أن تسأل أنصاف الفقهاء والقضاة والمفتيين عن أرائهم في تلك المسائل القلقة، وأعتادوا أن يسمعوا منهم آرائهم المجردة فيها وإن لم يُثبت في ذلك أثر صحيح، ولم يألفوا أن يسمعوا من أولئك الأنصاف كلمة: لا أدري، أو لا أعلم أو لا أحسن، ولذلك تعجّبوا عندما سمعوها من كبار الأئمة!، فهذا شيء غير معتاد، وآية ذلك الاهتمام منهم بتدوين جميع تلك الحكايات عن المواقف التي قالوا فيها: لا أدري!، فإن كان هذا ديدن الجميع في عصرهم لما كان في موقف أولئك الأئمة أمام كلمة "لا أدري" ما يُستدعى التدوين والرواية!

وهذا في كل عصر مرة ثانية، حتى عصر الصحابة، فقد روي أن رجلاً دخل المسجد يوماً فقال للحضور:
أفيكم مفتٍ؟
فقالوا مبتدرين الإجابة:
 سل!
فقال الرجل:
إني أجد الماء بعد الماء كلما تبولت
فقالوا له:
الذي منه الولد؟
قال:
الذي منه الولد!
قالوا جميعاً:
لا نرى لك إلا أنه يجب عليك الغسل
 أي كلما تبول الرجل وجب عليه الغسل وفي هذا مشقة كبيرة، وكان ابن عباس رضيَ الله عنه يصلي في ذلك المسجد، فسمع الرجل وسمع الإجابة، فعجل في صلاته، ثم نادى الرجل، وقال له:
أتجد شهوة في فرجك؟
فقال الرجل:
لا!
قال:
أتجد خدراً في جسدك؟
فقال الرجل:
لا!
قال:
إنما هي بردة (أي: برد أصابك) يكفيك منه الوضوء وأن تغسل المذاكير
ثم قال:
لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد!




فابن عباس هو أحد هؤلاء الأئمة الكبار الأفذاذ، ومنذ مراهقته الأولى ظهر عليه ذلك النبوغ وسط الصحابة، فالطبري يروي في تفسيره لسورة النصر قال أن عمر بن الخطاب كان يُدني إليه ابن عباس لما يرى من نبوغه وعلمه، ولما كان يرى فيه أثر دعوة النبي عليه الصلاة والسلام عندما ربّت على كتفيه وقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، ولاحظ القوم هذه المحاباة من الفاروق لابن عباس، فأحبّ أن يريهم مثله أثر الدعوة المجابة في هذا المراهق الصغير، فسألهم وهم جماعة من أكابر قريش عن معنى ما جاء في سورة النصر: "إذا جاء نصر الله والفتح"، فقالوا له: "هي فتح المدائن والقصور!"، فتركهم والتفت إلى ابن عباس وقال له: "فأنت يا بن عباس؟"، فقال ابن عباس الصغير سنًا وسط أولئك الشيوخ: "مثلٌ ضُرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه"، فقال له عمر بن الخطاب مؤيدًا: "ما أعلمُ منها إلا مثل ما تعلم"، ولا أدري ماذا كان عمر ابن عباس وقتذاك، ولكن عمر بن الخطاب قُتِلَ وابن عباس في السادسة عشرة من عمره أو ما يقارب ذلك
º



إذن فجموع الناس واحدة في كل عصر، فلا معنى للقول أن هذا عصر غريب أصبح كلٌ من فيه يفتي على هواه، فالعصر، كل عصر بريء، ولكن الأفذاذ في كل عصر يشكّلون قلّة أمام سيل الأنصاف والدخلاء، ثم أن أولئك الأفذاذ مجبولون في العادة على الوقار والميل إلى القليل من الكلام وحب العزلة والبعد عن مخالطة الناس في معايشهم ويؤمنون أن العلم يُؤتى إليه ولا يأتي بنفسه، بينما الآخرون فهم في كل مكان وكل مناسبة ولا يصمتون قط!
°


ولكن ذلك الصنف الأول ألا يزيد أصحابه من صعوبة مهمّة الآخرين في محاولة الاقتراب من أسوار الحقيقة (التي هي غاية كل علم) بخصالهم هذه الأبيّة العنيدة؟!

بلى!، وكأنّ ذلك قانون من قوانين العلم!: ألا يُنال بسهولة!
والله أعلم!


No comments: