Sunday, December 18, 2016

لاحظ يا عزيزي إنني كنت حياديًا!







من الطبيعي ولا لوم أو تثريب أن ينحاز الإنسان إلى شيءٍ ما!، فالتجرّد في عرض الآراء أقرب إلى المستحيل، لأنه يستدعي من المرء أن يلغي وجوده تمامًا، ومن العزيز للغاية أن يلغي أحدًا وجوده بيده طوعًا، لأن اللاشعور والذاتية لديه سيقاومان هذا الإلغاء للشخصية، وسيلغّمان على إثر هذا الطريق بالكثير من دلائل هذا التمرّد

 جال هذا في البال عندما قرأت قبل قليل هذه الذكريات على منشور بالفيس بوك، وهي كما هو واضح لأحد المترجمين وأساتذة اللغة الأسبانية، ويقول فيها:

من كان يترجم للوالد فعليه أن يترجم للولد.
ولمّا كنتُ أترجم لصدام حسين فقد استدعوني ذات مرّة للترجمة لولده عدي.
كان الموعد هو التاسعة مساءً في مقر اللجنة الأولمبية. في التاسعة كنتُ هناك. لم أكن أعرف عن المناسبة ولا عن هوية الزائر شيئا. كان عدي قد نجا من محاولة الاغتيال التي تعرض لها قبل ذلك الوقت بثلاث سنوات وصار يظهر في وسائل الإعلام ويستقبل الزوّار ويستعيد نشاطه ودوره وحضوره، أو يحاول ذلك على الأقل. انتظرتُ طويلا قبل أن يظهر السفير الكوبي في بغداد. كنتُ أعرفه وكان يعرفني، لكننا لم نتكلّم عن سبب المقابلة، ربّما لأنّه نفسه لم يكن أفضل حال منّي. ومرّ بعض الوقت قبل أن يأخذونا إلى قاعة كان فيها أشخاص آخرون ينتظرون لقاء ابن الرئيس القائد بناء على طلب منهم أو استدعاء منه. كان من بينهم المدير العام للتقييس والسيطرة النوعية آنذاك.
لم يأتِ أحد لاصطحاب كلّ المنتظرين إلا وقد اقترب الوقتُ من منتصف الليل.
حُملنا بالسيارات الرسمية المظللة التي انطلقت بنا إلى جهة كانت على الأقل بالنسبة إلي مجهولة.
وما هي إلا دقائق حتّى كنّا نجتاز الجسر المعلّق وندخل من إحدى بوابات القصر الجمهوري.
وفي داخل تلك المتاهة اقتادونا إلى صالة كبيرة وقف في صدرها " الأستاذ " بالزي العربي الذي اعتاد الظهور به بعد محاولة اغتياله. سلّم الجميع عليه واتخذنا أماكننا.
لم يكن من همّي أن أرى مضيفنا وهو يجلس بعد تلك الإصابات الخطيرة التي هشّمت أنحاء عديدة من جسمه وأعاقت حركته.
كان ذا أسلوب فريد في الحديث: سرعة في الكلام لغة كثيرة المفردات تقترب من الأدبية أحيانا وهي لغة من اعتاد الاجتماعات الحزبية والتنظير ومخاطبة الجمهور. مع ذلك فهي مفهومة واتجاهاتها معلومة على الرغم من اللثغة المعروفة في لسانه. كان " الأستاذ " كأبيه معروف النوايا والاتجاهات في التفكير وفي الحديث، وهذا يشكل ركنا مهما من أركان الترجمة الشفوية المباشرة.

أمّا ما أراده " الأستاذ " رئيس اللجنة الأولمبية العراقية من السفير الكوبي فهو مدربون كوبيون لرياضيين عراقيين في بعض الألعاب الرياضية التي تتميّز بها كوبا.

لم أنتبه في يوم من الأيام إلى مسألة الوقت الذي نمضيه في مأموريات الترجمة، فالهم والاهتمام منصبان على المهمة التي بين يديك وعلى المسرح الذي تتحرك فيه وعلى " الجمهور " الذي يستمع إلى جهدك. لا أعرف كم مضى من الوقت، لكنّي أذكر أنّ اللقاء انتهى برد موجز من طرف السفير الكوبي ثمّ بنهوضنا جميعا، ولا أدري كيف نهض الأستاذ، ثم مرورنا للسلام عليه ووداعه. أذكر أنّه قال لي وأنا أسلّم عليه " آني أشكووك هوايه" أي أشكرك كثيرا.

حين خرجنا أخبرني السكرتير الصحفي للأستاذ أنّ هذا أمر لي بمكافأة قدرها 25000 دينار، وهو في ذلك الوقت، مبلغ بائس لا يستحق عناء السؤال عنه أو المطالبة به.
                                            
لم أسأل أنا عن شيء ولم يسأل أحد عنّي.



وأقدّرُ هذا المترجم، وأحب متابعته عادة وقراءة ما يكتبه على الفيس بوك، ولكن بغض النظر عن ذلك التقدير فأنا وأنت كقارئين لهذه القطعة من الذكريات جزمنا يقينًا أن ذلك المترجم لم يكن حياديًا في عرضه، منذ السطر الأول:

من كان يترجم للوالد فعليه أن يترجم للولد

مع إنها لم تكن مهمة شخصية أو جلسة سمر أو شهوة للحديث انتابت "الولد"، بل كانت كما قرأتم اجتماع رسمي رياضي بحضور أعضاء اللجنة الأولمبية وبعض رجال الدولة والسفراء في القصر الجمهوري، وكان نقطة التجمّع كما قرأتم في مقر اللجنة الأولمبية، إذن كان السفير الكوبي يعلم الغرض العام من الاجتماع، وليس كما كُتب:

انتظرتُ طويلا قبل أن يظهر السفير الكوبي في بغداد. كنتُ أعرفه وكان يعرفني، لكننا لم نتكلّم عن سبب المقابلة، ربّما لأنّه نفسه لم يكن أفضل حال منّي

وتحدّث المترجم قبل ذلك عن لقائهم المنتظر بعديّ

كان عدي قد نجا من محاولة الاغتيال التي تعرض لها قبل ذلك الوقت بثلاث سنوات وصار يظهر في وسائل الإعلام ويستقبل الزوّار ويستعيد نشاطه ودوره وحضوره، أو يحاول ذلك على الأقل

ولكنه ما أن دخل الاجتماع وقابله، قال عنه:

وفي داخل تلك المتاهة اقتادونا إلى صالة كبيرة وقف في صدرها " الأستاذ " بالزي العربي الذي اعتاد الظهور به بعد محاولة اغتياله. سلّم الجميع عليه واتخذنا أماكننا.
لم يكن من همّي أن أرى مضيفنا وهو يجلس بعد تلك الإصابات الخطيرة التي هشّمت أنحاء عديدة من جسمه وأعاقت حركته.


فأصبح الأمر ليس من همّه في طرفة عين!، ثم أن قصده من كتابة لقب "الأستاذ" داخل علامتي تنصيص، ذاك الذي كان أولاً "الولد"، ثم تحوّل إلى "ابن الرئيس القائد"، قبل أن يستقر على "الأستاذ"، فهو لا يعدو للقارئ سوى تهكم واستخفاف لا غير!، وغير ذلك، ثم ينهي ذكرياته بلقب جديد له، فيقول في السطر الأخير:


حين خرجنا أخبرني السكرتير الصحفي للأستاذ أنّ هذا أمر لي بمكافأة قدرها 25000 دينار، وهو في ذلك الوقت، مبلغ بائس لا يستحق عناء السؤال عنه أو المطالبة به.
                                            
لم أسأل أنا عن شيء ولم يسأل أحد عنّي.


تحوّل أخيرًا إلى هذا!، وكلمة "هذا" هذه ذو دلالة قديمة، فهي ذاتها التي غضب منها الفرزدق وأثارت حميّته عندما سمعها من فم الخليفة هشام بن عبد الملك، عن مَن هذا الذي يوسع الناس له الطريق إلى الحجر الأسود طواعية رغم أنه لم يستطع وهو الخليفة أن يشقّ له طريقًا وسط الزحام، فزين العابدين صاحب هذا الموقف أكبر من أن يُشار إليه بكلمة "هذا"، فانطلق الفرزدق من هذه الكلمة ذاتها، وقال:

هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

..
إلى أن يقول بيت القصيد:

وَلَيْسَ قَوْلُكَ: "مَن هذا؟" بضَائرِه
العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ



ولا أقصد بداهةً المشابهة في شيء بين الموقفين، ولكن عُديّ كان في ذلك الموقف المذكور في المذكرات هو رأس الاجتماع والداعي إليه، فالإشارة إليه بهذا غير خافية الدلالة، وأنا أعلم بعض الشيء عن اتجاه المترجم السياسي، وأعلم أنه خرج من وطنه بسبب الأوضاع المتدهورة الذي آل العراق إليها منذ الحرب وما قبلها، وأعلم أنه رأى بعينيه الكثير مما يثير الأسى، لذلك قلت في أول هذه الكلمات أنه من الطبيعي ألا يكون الإنسان محايدًا في نقل الوقائع، وشاهد ذلك أن الردود ذاتها كانت بدأت في الشروع في جلسة عن السياسة والأشخاص، فعجبت أن المترجم قال ردًا على إحدى تلك التعليقات:


لاحظ عزيزي دكتور سفيان أنني اكتفيت بتقرير ما رأيت فلم أتهجم ولم أشهر ولم أجرح. حتى مزاحي كان خفيفا ومفهوما، لذلك لا يستطيع مناصر للنظام السابق أن يتهمني بمحاباة أعدائه ولا هؤلاء بمحاباة أولئك. لذلك علقتم جميعا وأعجبتم جميعا. أتمنى أن نراعي هذا التنوع لكي لا نحوّل المنشور إلى مناسبة للتجاذبات. مع تقديري ومحبتي للجميع.


وقد قرأت التعليقات مرّتين لأرى أين هذا التنوّع!، فلم أدر عما يتحدّث فالتعليقات جميعها كانت تهنئة بالخروج سالمًا من هذا الاجتماع، وحسرة على مبلغ المكافأة البائس في نهاية اليوم الذي قال أحدهم في التعليقات أن النظام كان يلقي على أقدام الراقصات أضعاف هذا المبلغ، أما قوله أن مزاحه كان خفيفًا ومفهومًا فهو يقصد أنه عندما سأله أحدهم في التعليقات عن وضع أسرته وقلقها عليه خاصة أن الاجتماع استمرّ إلى ما بعد منتصف الليل، فأجابه مازحًا:

لم يكن هناك أي قلق عزيزي سلوان فهم يعرفون أنني كنتُ في " أيد أمينة " !. تحياتي.


وها هي علامتا التنصيص وقد ظهرتا مرّة أخرى

••

وكما ذكرت وأعيد ذلك إنني أقدّر ذلك المترجم، كما أنه لم يبخل قط بعلمه في اللغة على أي من الاستفسارات الموجّهة إليه سواء من طلابه أو من سواهم، وأخجلني بفضله رغم أن أول تعليق لي في صفحته كان سؤالا مباشرًا في اللغة، فبورخيس له كتاب صغير عنوانه "أطلس" صدر في سنواته الأخيرة، وأكثره صور فوتغرافية ملتقطة له في رحلته حول العالم مع زوجته فيما بعد، ماريا كوداما، وأقلّه كلمات قصيرة بمثابة انطباعات عابرة سجّلها وقتذاك عن أبرز المعالم في في رحلته، ومن بين تلك البلاد التي زارها، كانت مصر، وزار الأهرامات وألتقطت له الصور، وقال في انطباعاته هذه الفقرة الذي أطلق عليها اسمEl desierto أي الصحراء


  A unos trescientos o cuatrocientos metros de la Pirámide me incliné, tomé un puñado de arena, lo dejé caer silenciosamente un poco más lejos y dije en voz baja: Estoy modificando el Sahara. El hecho era mínimo, pero las no ingeniosas palabras eran exactas y pensé que había sido necesaria toda mi vida para que yo pudiera decirlas. La memoria de aquel momento es una de las más significativas de mi estadía en Egipto.


وكنت أريد ترجمة هذا الكتاب، فهو بمثابة فقرات قصيرة غير مرهقة على الإطلاق، وشرعت في ترجمة قطع قليلة أخرى إلى أن وصلت إلى القطعة التي قالها عن مصر، وتوقفت عند فقرة منها فأحببت أن أُساعد في فهمها، فقلت له ما وقفتُ أمامه، فردَّ عليَّ ردًا موجزًا ومباشرًا، فأردفت تعليقي بترجمتي المبدئية للفقرة بأكملها، وكانت كذا:


مِلتُ، على مرأى ثلاثمائة أو أربعمائة مترًا من الهرم، لأقبضَ قبضةً من الرمال ملءَ يدي، ثم وفي أنَاةٍ نبذتُها على مقربة، وتمتمتُ: "هَأَنَذَا ذاكَ الذي أحدث تغييرًا في الصحراء!"، أو لعلّي جانبتُ الحقيقة قليلاً فلم تكن هذه الكلمات البليغة هي كلماتي بذاتها، بَيْدَ إنني تصوّرت وقتذاك إنني ما وُجِدْتُ في هذه الحياة إلا لأجل أن أنبس بمثل هذي الكلمات حيثما أقف؛ وعندي أن ذكرى تلك اللحظة هي أحظى الذكريات التي أحملها من زيارتي لمصر


فتطوّع أن يترجم هذه الفقرة بأكملها ليبين لي موضع مآخذي، وكانت ترجمته هي:

على مسافة ثلثمائة أو أربعمائة متر من الهرم انحنيت لآخذ حفنة من الرمل. وأطلقت ما في يدي في مكان آخر غير بعيد وقلت بصوت خفيض: إنني أغيّر الصحراء. لم يكن كبيرا ما فعلته، لكن كلماتي، التي لم تكن تنمّ عن أيّ ذكاء، كانت صادقة. لقد فكّرت أنّ حياتي كلّها كانت ضرورية لكي أستطيع أن أنطق بتلك الكلمات. وما زالت ذكرى تلك اللحظة تمثّل واحدة من أهمّ لحظات مقامي في مصر.






وهذا أسلوب فعّال ومؤثّر، فشكرته صادقًا ثم حاولت أن أدافع عن ترجمتي السابقة في سبب استخدامي لهذا المعنى دون ذاك ولا سيما أن الاختلاف الرئيسي بين الترجمتين يرجع إلى الافتراق في ترجمة كلمة "El hecho " فهي في الترجمة الأولى حملت معنى "الحقيقة" بينما في الترجمة الثانية حملت معنى "الفعل" ومفردات اللفظة تسمح بذلك، فترتب على ذلك الاختلاف في ترجمة تلك الفقرة من النَص، وأسهبتُ في كلام كثير أراه الآن كثرثرة دون طائل من ورائها ولا فائدة هنا من إيراده، كما أنني لست بمترجم في الأصل، ولكنه استمع إليَّ في رحابة صدر، ولم يناقشني – وهو محق – في تلك الثرثرة اللغوية، بل قال لي كلمة جامعة، وهي:

الترجمة عزيزي أحمد هي نشاط آخر من نشاطات اللغة وممارستها ضرورية لكن يجب أن تترجم أمورا تعرفها أو قرأت عنها لا أن تبدأ وأنت المبتدئ ببورخس أو غير بورخس. لا تشعر بأي احباط فأخطاؤك طبيعية منطقية بسبب قلة الخبرة. بالممارسة والقراءة ستكتسب المزيد من المعرفة بقيم المفردات وستتعلم انتقاء الكلمة المناسبة للحالة التي أنت أمامها. أمنياتي لك بالتوفيق والمواظبة على المطالعة والتعلم.



وكلماته مشجّعة وطيّبة لكل ذي عينين، وإن كانت حقيقة الأمر إنني - ومنذ لحظة قراءة هذا التعليق إلى هذه اللحظة - عزوفٌ عن الترجمة عن تلك اللغة سواء لبورخيس أو غير بورخيس، وأرسلت على أثر هذا ما كنت أعدّ له، إلى سلة مهملات النظام!



ونعم!، لا أدري لماذا لم أشر إليه، أنه المترجم الأستاذ/ بسام البزاز، وهذه هي صفحته على الفيس بوك وأدعوكم بالتأكيد إلى متابعته:

ودخلت إليها الآن كي أنقل العنوان فوجدته وقد نشر منشورًا جديدًا عن الترجمة، فيه فائدة للمهتمين بها، قال فيه:
لمعرفة الترجمة الصحيحة لأي مصطلح جديد يطرق سمعنا، ما علينا إلا أن نتصوّر ما قد يكون عليه في اللغة الأجنبية بحكم معرفتنا بمفرداته المتفرقة ونطابق نتيجة تخميننا مع نص مأخوذ من الصحافة الأجنبية لنتحقق من أنّ المصطلح مستعمل أم لا.
أضربُ على ذلك مثلا:
نسمع الآن بمصطلح " الممر الآمن " أو " الممرات الآمنة ".
معرفتي باللغة تقول لي إنّ "ممر" هوPaso و " آمن " هو Seguro وعليه فإن تخميني يقودني إلى أنّ مصطلح " الممر الآمن " في الإسبانية هو Paso seguro.
أذهبُ إلى google وأكتب مثلا: paso libre وسأجد أنّ الأخبار تحدثني في الإسبانية بالآتي:
Durante meses, el gobierno sirio y Rusia han estado exhortando a los rebeldes a dejar Alepo y les han ofrecido (pasos seguros) hacia otras...
في الإمكان تطبيق هذه الطريقة على مصطلحات أخرى نجهل كيف تقال بالإسبانية أو بأية لغة أخرى من دون أن نلجأ إلى سؤال أيّ جهبذ من جهابذة الترجمة في بلادنا، فلربّما لا يفقه هو نفسه من الأمر شيئا وهو الاحتمال الأكبر.


وها هو الحياد يطلّ برأسه للمرة الثانية!، فحتّى في مواضيعه في فن الترجمة لا يخلو الأمر من عدم حياد وإبداء رأي في الأوضاع القائمة في بلاده، أقرأتم ذلك السطر الأخير عن جهابذة الترجمة في بلادنا!

وهو لا شك مترجم قدير، ولكنه لا يقف على الحياد أبدًا .. مثلنا جميعًا نحن البشر!



No comments: