Wednesday, December 21, 2016

مع أحمد رامي







خيّب «أحمد رامي» آمالي في أربع أشياء ..

وأول هذه الأشياء: ترجمته لرباعيات الخيام:
°
لا تحسبوا أنّي أخافُ الزمانْ
أو أرهبُ الموتَ إذا الموتُ حانْ
الموتُ حقٌ!، لستُ أخشى الردى
وإنما أخشى فواتَ الأوانْ
°
وترجمته فاتنة، بل أنها صراحة أجمل ما في ديوانه القريب من الجوّ التقليدي، وإلى الآن لم يتفوّق عليه أحد في ترجمة الرباعيات شعرًا، نعم هناك من تفوّق عليه في حصر المعنى والاقتراب أكثر من أسوار المعنى الفارسي، ولكن لترجمة رامي دائمًا النصيب الأوفر من الشاعرية عند مقارنتها بسائر الترجمات، ترجمة عذبة جميلة لا يُملّ من إعادة قراءتها، بينما في ترجمات الآخرين للرباعيات يتسرب شعور الملل أثناء القراءة الثانية أو الثالثة، سواء المنظوم أو المنثور منها، ولكن خيبة الأمل جاءت من وراء هذه ترجمة رامي للرباعيات!، فرامي كما روى أعجب بترجمة عربية للرباعيات ترجمها صاحبها (الذي لم يذكر اسمه) عن ترجمة فيتزجرالد الإنجليزية، ففتنته كثيرًا، ولكنه أحس أن الكثير ضاع في خلال الترجمة لأنه قرأها من خلال ترجمة الترجمة، فلما أتقن الإنجليزية أعاد قراءة رباعيات فيتزجيرلاد بالإنجليزية، "فلم تشف لي غليلي" كما قال، وقرر أن يتعلّم اللغة الفارسية ليقرأها به، وظلّ الحلم مؤجلاً ثماني سنين حتى تحقق أثناء بعثته إلى باريس، فتعلّمها وترجم الرباعيات في باريس تلك الترجمة الساحرة، ثم وماذا بعد؟!



ما أثر تعلّم اللغة الفارسية على شعره بعد ذلك؟، لا شيء!، هل ترجم أعمالاً أخرى من تلك اللغة؟، لا!، هل أُشتهر عنه أن ترجم أي شعر آخر سوى هذه الرباعيات؟، لا أيضًا!، نعلم أنه عمل بدار الكتب، ولكن كيف أضافت هذه الوظيفة إلى سيرته الادبية؟، فهذا ما لا نعلمه!، وكأن الرباعيات كانت عمله الأوحد الذي تعلّم من أجله هذه اللغة لمدة سنتين منذ أن أوفدته دار الكتب إلى باريس في 1922 لتعلّم اللغة الفارسية ليساعدها في تصنيف وتسجيل الكتب المكتوبة بتلك اللغة في مخازنها، إلى أن ظهرت الطبعة الأولى من الرباعيات عام 1924، فالثانية المنقّحة والمزيدة في 1931، ثم وكأن رامي منذ ذلك التاريخ قد ترك تلك اللغة وكأنه لم يتعلمها قط!، وأقرأُ سيرة رامي قبل أن يترجم الرباعيات وبعد أن ترجمها، فأزداد حيرة!، لأن فترة اللغة الفارسية وترجمته للرباعيات نستطيع أن نقتصّها من بين الفترتين دون أن تتأثر حياة رامي الأدبية بذلك الاقتصاص، وكأنها لم توجد قط!، وزدتُ حيرة أيضًا عندما قرأت وصف صالح جودت لأحمد رامي، وهو صديقه المقرّب، اسمعه يقول من قصيدة طويلة قالها في تكريم رامي بمناسبة حصولة على جائزة الدولة التقديرية عام 1967، قال صالح جودت عن صداقة ربع قرن جمعتهما معًا:

ربعُ قرنٍ، وكلانا حافظٌ للعهدِ ذاكرْ
كنتُ ألقاكَ بدار الكُتْبِ، تُمسي وتُباكرْ
وترى في الكُتْبِ قبل الناسِ أحبابًا وسامرْ
عاكفًا كالراهبِ الهائمِ في ظلِّ الشعائرْ
نابشًا بينَ التواريخ كجلاّبِ الجواهرْ
ترضعُ الأوراقَ بالحكمةِ من ثَدْيِ المحابرْ
وتُصَلِّي لكتابٍ ذاهبِ الطبعةِ نادرْ
وتُضَحِّي زهرةَ العمرِ وطاقاتِ المحاجرْ
حافظًا كلّ قديمٍ، دارسًا كلّ معاصرْ
زاهدًا في نعمةِ الدنيا، على الحرمانِ صابرْ
هاتفًا: يا عصبةَ المالِ، وطلّابَ المظاهرْ
كلّ ما أطلبُ من دنياكمو: ديوان شاعرْ

وهي قصيدة طويلة فاتنة، وصالح مرة أخرى صديق رامي الحميم، أي أن هذا وصف صديق لصديق يعرفه جيدًا، ومع هذا .. فأنني لم أر شخصية رامي متجسَّدة في تلك الأبيات!، أقصد هل ما تبقّى من ذكرى رامي يحمل معشار هذه الصفات السابقة؟!، هل هذا وصف أستطيع أن نتصوّر رامي عليه الآن: صورة راهب العلم ودارس كتب التواريخ والمحقق الباحث العلاّمة؟!، هذه صورة غريبة الآن لم أستطع أن أتخيّل أحمد رامي عليها قط

وثانيها: ديوانه!:

 
قرأت ديوانه، وخاب أملي، بهذه البساطة، فهذا شأن لا يُفسّر، فالشعر أما أن يعجبك أو لا، "لا توجد منطقة وسطى"، ومن بين الجميع كان ديوان رامي من أقل الدواوين التي رغبت في العودة إليها مرة ثانية!، باستثناء رغبة القراءة في الرباعيات، وباستثناء قصائد قليلة لا تتجاو أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة في تكريم – رثاء صديقه صالح جودت، وهي قصيدة واحدة تقريبًا كانت في التكريم في الأصل ثم مات صالح بعد ذلك بسنوات فعاد إليها وحذف وأضاف القليل وجعلها في رثائه، وأجمل ما فيها قوله:

ما اختلفنا في الهَوَى إلا على
أيُّنا أكثر حبًا يا أُخيَّا

وقصيدته البسيطة التي قالها في حفيدته رانيا، والتي أردد بسعادة هذه الأبيات منها:

أنا أحبُّ رانيةْ
قرّة عيني الغاليةْ

لله ما أجملها
حين تكون راضيةْ

وما أرقَّ خطوها
رائحةً وغاديةْ

تقولُ (جِدُّو) وأنا
أقولُ: يا حياتيهْ
..

وأحب أبيات قالها في زحلة عن أيام شوقي فيها، وأحب استعادتها كثيرًا، وكأني أرى المشهد فيها رؤية عين، يقول رامي في زحلة:
هنا كان شوقي يُطيلُ المقام
ويأنس بالرفقةِ الكُمَّلِ

ويُسمعهمْ من أغاريدهِ
حديثَ العصافير للسنبلِ

ويجلو لأعينهم صورةً
جرى رسمها في يدَيْ صيْقلِ

ويَنْضَحُهُمْ مِن جنَى شعرهِ
بفاكهةِ الموسمِ المقبلِ

غناءً يدورُ على السامعينَ
كما دراتِ الكأسُ في المحفلِ

شجيَّ الرنينِ، نديَّ الحنينِ
لطيفَ المخارجِ والمدخلِ

إلى قلبِ من يستطيبُ الشجا
ويَطْرَبُ للنغمِ المرسَلِ
..



ثم أغلق الديوان، فأما الأغنيات فلا!، فقراؤتها تختلف عن سماعها، مثلها مثل أكثر كلمات الأغاني، حتّى في مقدمة صالح جودت – نعم!، هو مرة أخرى، أليس بصديقه الحميم؟! – لديوان رامي، قال عن ذلك:
ولمع اسمه في أوائل العشرينات، حتى خيل للناس أن لا خليفة لأمير الشعراء غيره (!!)، ولكن القدر شاء له أن يلتقي بأم كلثوم، في منتصف العشرينات، فإذا هو يضعف أمام سحرها، وتلين موهبته لإلهاماتها، فينصرف عن الشعر إلى نظم الأغنية الدارجة لها، وتستمرئ عاطفته مرعى ذلك الصوت الخصيب، حتى يكاد ينسى نفسه، وينسى موهبته الأصلية، وينسى ما جُبل عليه وما خُلق له، قربانًا لوتر أم كلثوم


وثالثها: رثاؤه لأم كلثوم!




إن غضضنا النظر عن كل قيل فيهما، وإن احتكمنا إلى الشعر وحده، أو إلى قصيدة رثاء رامي لأم كلثوم بعد كل هذا العمر الطويل معًا الممتلئ أخبارًا وقصصًا مواقفًا عنهما، لجزمنا أنه لم يحبها قط!، والرثاء مشتهر، وهو الذي يبدأ هكذا:
ما جال في خاطري أنّي سأرثيها
بعد الذي صُغتُ من أشجى أغانيها

قد كنتُ أسمعها تشدو فتُطربني
واليومَ أسمعني أبكي وأبكيها

..

وهي قصيدة جامدة وطويلة، ولكن ربما من السهل تفسير هذا الجمود، فزوج أم كلثوم حاضر في المناسبة وامتدّ به العمر بعدها، ورامي نفسه قد تقدّم به العمر وسط عائلته الصغيرة، وبين زوجته، وبين أبنائه الثلاثة منها، ومكانته الأدبية مرموقة، ثم أنه ألقى هذه القصيدة في محفل رسمي حضره رئيس الدولة أنور السادات وأُذيع في الراديو والتليفزيون، فربما لبعض هذه الظروف أو كلّها، جاء هذا الرثاء بذلك الشكل، فما مِن عاطفة حارّة فيه على الإطلاق، لا عاطفة مستسرة حتّى، حاول أن يحشرها بين الأسطر!، بل القصيدة بأكملها شيء أقرب إلى رثاء كاتب كلمات أغاني في وفاة مغنيّة أغانيه الأولى!!، والقراءة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة لتلك القصيدة تقول أنه كان يمنع نفسه من الاسترسال في أي ناحية شخصية بينهما!، لم يجرأ أن يكتب أنه كان يحبها، لم يجرأ أن يتذكر عينيها، لم يجرأ أن يصفها بصفة جمالية واحدة، في الوجه أو القد (وهو الشاعر الذي لهج بالجمال طول عمره) ولم يجرأ أن يستخدم مفردات قاموسه الشعري التي طال استخدامه لها في أغانيه وقصائده السابقة، لا شيء على الإطلاق، نصفها الأوّل في وصف صوتها الذهبيّ وما أعطاه للفنّ:
صوتٌ بعيدُ المدى، ريَّا مناهلُهُ
له من النبراتِ الغرِّ صافيها
..
 ونصفها الثاني عن خدماتها السياسية والاجتماعية التي قدّمتها لمصر الذي يستهلّه هكذا:
يا بنتَ مصر، ويا رمزَ الوفاءِ لها
قدّمتِ أغلى الذي يُهدى لواديها

كنتِ الأنيس لها أيام بهجتها
وكنتِ أصدق باكٍ في مآسيها
..

وينهي القصيدة بأربع أبيات يخاطب بها الحضور تبتدأ بهذا البيت:
يا مَن أسيتُمْ عليها بعد غيبتها
لا تجزعوا!، فلها ذكرٌ سيُبقيها

ثم تنتهي القصيدة!، أنها نهاية باردة لاسم أم كلثوم لدى شاعرها المقرَّب أحمد رامي، ورثاء رسمي يخيّب الآمال كثيرًا



ورابعها وآخرها: أيامه الأخيرة!





لأنه مات مثلما يموت أي إنسان هرم! (1892- 1981) في ضعف جسدي ووهن في الذاكرة، وكان قد توقف عن قول الشعر أو كاد منذ وفاة أم كلثوم، أي قبل وفاته بخمس أعوام تقريبًا، عدا قصائد قليلة نشرها في المجلات وقتذاك، وأصبح لا يتحدّث عن الشعر على الإطلاق، وكأنه لم يكن شاعرًا قط، اقرأوا معي هذا اللقاء الأخير الذي أجرته معه السيدة أماني فريد، في الإسكندرية، وقبيل رحيله بأشهر معدودة، وهو أقصر حوار قرأته على الإطلاق عن أحدهم وأقلّهم فائدة وأكثرهم أسى، وقد نُشِر قبل وفاته، وهو:
استقبلتني السيدة قرينته ونجله المهندس توحيد، وكان شاعرنا الكبير يجلس في شرفة الصالون والتي يرى منها البحر على بعد أمتار، وقد بدا عليه السرور وهو ينظر إلى البحر ويبتسم في هدوء وجزل رغم الضعف والهزال الباديان عليه


واقتربت منه محيية، فنظر إليَّ في تمعّن، وأدركتُ أنه لم يعرفني، وذكّرته في بنته باسمي، فتفرّس فيَّ أكثر وأكثر، وقال: آه .. تذكرتها!

وتنفستُ الصعداء، أخذت أتحدّثُ إليه وسألته: هل تقرأ شيئًا في هذه الأيام؟ ألا تكتب شعرًا؟، قال: لا!، الآن .. لا!

سألتُ ابنه المهندس توحيد: هل يذكر والدك شيئًا من أشعاره القديمة هل يذكر مثلاً رباعيات الخيام التي ترجمها عن الفارسية وظروف هذه الترجمة؟

قال: أنه لا يتحدث عن الأدب الأوربي ولا يفكّر في الشعر إلا قليلاً، وهو يكره الأضواء القوية لأنها تسبب له ضيقًا وترهق حالته العصبية

وتركتُ رامي وأسرته وأنا أغادر الدار وفي ذهني تتوارد بعض أبيات من الشعر التي نظمها عندما قال في الوحدة:
..
..
غمرتني سكينةُ الكونِ، حتَّى
كدتُ أصغي إلى حديثِ السكونِ


أقرأتم  بين سطور هذا اللقاء الأخير، كيف أشاح بيده! وأنهى أي أمل في الحوار بينه وبينها بإجابة يتيمة ثم عاد إلى تأمل البحر!، لا!، الآن .. لا شعر!



هذه هي خيبات أملي معه!

رحمه الله


No comments: