Sunday, December 4, 2016

كتاب من الزمن الجميل


وهو كتاب صدر في الذكرى الأولى للثورة، عام 1953، وقرأته لأن لوحة الغلاف رائعة، ومن توقيعه عليها عرفت أنه الفنان زهدي:



الملك فاروق المتجهم من جانب، والرئيس محمد نجيب مع ابتسامة استخفاف من الجانب الثاني المواجه، وبين الرجلين جموع الشعب التي تنظر جميعها في غضب ووعيد إلى الملك فاروق، والتي رسمهم زهدي بمهارة في جانب الرئيس محمد نجيب مما جعل الملك فاروق - رغم زحام اللوحة - يبدو أنه بمفرده تمامًا

والفنان زهدي هو صاحب رسومات الكتاب الداخلية أيضًا، وهي رسومات رائعة للغاية، وبديعة في فن السخرية السياسية، أعجبني منها كثيرًا رسمه للملك فاروق وكأنه فأر سمين، وهو يقرض صفحات كتاب ضخم ملقي على الأرض نعرف من عنوانه أنه "الدستور"، وفي رسمه أخرى يرسمه في هيئة عم دهب وهو يجلس مستمتعًا فوق كومة كبيرة من العملات الذهبية وينثرها على نفسه، وفي أخرى يصوّره وكأنه ملك الشايب في الكوتشينة إشارة إلى لعبة القمار، وفي رسمه أخرى وقد رسم كرسي العرش أعلى الصفحة بينما الملك يتدحرج على وجهه أسفل السلالم المؤدية إليه، وفي رسمة أخرى يصوّره كتمثال ضخم منصوب في تل أبيب وعلى قاعدة التمثال نجمة داوود كبيرة، في إشارة لحادثة الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين

والرسومات خطوطها بديعة حقًا، وطالعت قبل قليل بعض أعماله الأخرى على الإنترنت وقرأت سيرته المنشورة، لقد كان مدرسة وحده في فن الكاريكاتير

بينما الكتاب نفسه فقد مرّ سريعًا، ويسهل توقع ما فيه جميعًا ولا سيما إنها الذكرى الأولى، ولم يكن هناك سوى محمد نجيب الوجه الطيّب للثورة، فما في هذا الكتاب كله أي ذكر ولو عرضًا لجمال عبد الناصر، فقط محمد نجيب، الأهداء له، وصورته الفوتغرافية في صفحة بمفردها جانب الإهداء:
إلى المعجزة المصرية
إلى البطل محمد نجيب
إلى الرجل الذي علق اسمه في قائمة شهداء معركة فلسطين ثم بعثه الله ليخوض معركة الوطن، فحقق على يديه نصرًا دفع ببلاده إلى الحياة

وما الظنّ بكتاب بدأ بعد هذا الإهداء بتقديم تنويه بأن هذا الكتاب الذي بين يديك:

ليس هذا الكتاب دفاعًا عن هارون الرشيد فيما نسب إليه من أن الملك السابق، فاروق، قد تشابهت حياته بحياة هارون من حيث الملذات والمباذل، ولا هو مقارنة بين حياتيهما، فقد كان هارون الرشيد يقود جيوشه بنفسه في بعض المعارك الحربية الحاسمة، وكان هارون الرشيد مشدودًا بخشية الله، وكان بكّاءً حتى لقد كان يجهش بالبكاء حتى تخضلّ لحيته بالدمع من فرط خشية الله، وكان هارون الرشيد "يتزوّج"  - المؤلف هو الذي وضع الكلمة بين علامتي تنصيص- الجواري إذا ما أعجب بإحداهن، ولكنه لا يفسق


إلى آخر هذه المقارنة التي من السهل توقع نهايتها، والتي يستطرد أيضًا فيقول أن هذا الكتاب الذي بين يديك:
وليس هذا الكتاب دفاعًا عن الشيطان، عندما اختصَّ الملك السابق بأن يعمل عنده، وأن يكون فاروق وحده من بين الناس، السكرتير الخاص للشيطان، أو مدير مكتبه

وقرأته مبتسمًا بالتأكيد، فهو من التاريخ، ومن التاريخ الغضّ الذي يُكتب عقب وقوع الحادثة مباشرة، مثل ظهور كتاب أسرار مقتل سعاد حسني، لدى باعة الصحف، بعد مرور شهر واحد على وفاتها

وقرأته مبتسمًا كذلك لأنني من المستقبل!، فالكتاب طبعته مطبعة جريدة المصري، المشهورة بمواقفها السياسية المناهضة للحكومة، وكانت تصدر بشكل اعتيادي قبل الثورة، وها هي في ذلك الكتاب تكتب عن أن الصحافة كانت تمرّ بأسوأ أيامها في عهد الملك فاروق وأنه سجن الكثير من كبار الصحفيين والأدباء دون محاكمة أو دفاع، وما إلى ذلك!، وكنت أقرأ هذه الصفحات وأنا أقول لنفسي مستغربًا: "عمّ يتحدّثون!، وما أسماء أولئك الكبار أصلاً؟!"، بل كانت الصفحات وكأنها تتنبأ بما سيحدث بعد ذلك بقليل جدًا، لا في العهد الملكي المنصرم

وزاد هذا الابتسام في الصفحات الأخيرة والجريدة تبشّر بالعهد الديموقراطي القادم الذي سيعطي لكلٍّ حقه وحريته

ثم ماذا؟

أنتم تعلمون!


اُعتقل محمد نجيب وحُدّدت إقامته القسرية بالمرج

وأُغلقت جريدة المصري عام 1954 وصودرت ممتلكاتها، لمنادتها بعودة الجيش إلى ثكناته وبدء تطبيق الديموقراطية، وهروب صاحب الجريدة إلى الخارج وصدور حكم بالسجن الغيابي عليه

واعتقل الفنان زهدي للمرة الأولى لرسوماته السياسية في أواخر الخمسينيات

وكان هذا أول وآخر كتاب سياسي يصدره مؤلف الكتاب



No comments: