Monday, December 5, 2016

كل شيء أستطيع أن أفهمه إلا ..





في موضوع مخطوطات القرآن الكريم، أخشى أن تُفهم هذه الفقرة على نحو خاطئ:
 

فإذن متى ما نجح المسلمون في لفت الأنظار – مجرد لفت الأنظار - إلى ثبوت هذه الآيات والحجج والبراهين منذ بداية عهد الإسلام حتى الآن، فكفى بهذا ردًا، وستأخذ الأمور عند ذلك مجراها الطبيعي!، ودون هذا خرط القتاد!


فما كنت أقصده، والذي آخذ به نفسي، هو إنني ما زلت لا أرى جدوى في مجادلة أحد في دينه، وكان القصد هو ما دام في وسع المبشِّر (بمعناه العام) إثبات أن دينه أحرى بالاتباع لما هو موجود فيه بذاته، دون مقارنته بالآخرين، فحسبه ذلك!، فما في وسعه ولا في قدرة ألف مثله أن يفرضوا مشيئهم على ما لم يشئه الله تعالى في قوله "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، ولا أستشهد بهذه الآية لإنني مسلم، ولكن معناها صحيح في كل دين، فالواقع شاهد على ذلك: الناس – منذ الأزل - مختلفون! .. ولا يزالون كذلك!
والواقع شاهد أيضًا - الآن أو فيما سبق - أن الناس لا يؤمنون بدين آخر على دينهم جراء هذه الجدالات العنيفة، فالجدال في نهاية المطاف مسألة عقلية، والإيمان مسألة قلبية، وليس للعقل على القلب سلطان، ولا العكس، ولو كان في الجدال فائدة، أدنى فائدة، أي فائدة، لما كان هناك أي معنى لهذا الحديث:

عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا

فأيهما ستختار؟!، هل يستحق الأمر العناء؟!، لأنك لن تهدي – حتّى! – مَن أحببتَ! .. تخيّل!

وتخيّل أن الجدال وإثبات الحقائق بالبراهين والأدلّة ليسوا من وسائل انتشار الأديان!، منذ متى انتشرت بذلك حتّى؟!، وبما إن الشيء بالشيء يُذكر، فمس ليليان تراشر صاحبة الملجأ، التي تحدثت عنها في موضع سابق، لم تكن رغم دراستها اللاهوتية على شيءٍ يُذكر من التعمّق في الدين، فجميع أحاديثها الدينية التي قرأتها، كانت مجرد تأملات بسيطة من آيات في الكتاب المقدس، تأخذ منها العبرة على ضرورة مساعدة الناس والأطفال وعدم انتظار الجزاء منهم، كهذه الآية في متّى:

وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ

فجانب التبشير لم يكن قويًا فيها لم تبذل جهدًا فيه، بل كان كل جهدها ينصرف في حياكة ثياب الأطفال وإعداد طعامهم وإدارة أموال الملجأ، غير إنها بالطبع كانت تستقدم المدرّسات والمدرّسين وتبني بأموالها الكنيسة داخل أسوار ملجأها، وتستقدم رجال الدين إليها، وتحيط الأطفال اليتامى بجوّ دينيّ خالص، في دور يكاد يماثل تمامًا دور التجّار المسلمين الذين كانوا السبب المباشر في انتشار الإسلام في المدن التجارية أو الواقعة على خطوط القوافل التجارية، فالتجّار ليسوا برجال دين، وإنما كانوا يهيئون الأمر، بحسن أخلاقهم أولاً، وبناء ما يحتاجه سكّان المدن، وجلب رجال الدين ليعلّموا الناس معالم دينهم الجديد وحسب، وأي نبتة صغيرة تنمو إذا ما توافرت لها العوامل المناسبة

ليس للجدال من فائدة .. حقاً!

وعنوان هذا الموضوع لأستاذنا د. حسين مؤنس، في كلمات جميلة كتبها قبل 35 عامًا، أحببت نقلها:

كل شيء مما يجري بين الناس أفهمه إلا التعصب في الدين ..
وكل شيء من حماقات الناس أستطيع أن ألتمس له العذر إلا الذي يظن أن إعزازه لدينه يبيح له أن يعتدي على عقائد الآخرين
لأن الدين بالنسبة لغالبية الناس وراثة، إنه جزء من ميراثه الثقافي الذي نأخذه عن الآباء، فأنا مسلم لأن أبي مسلم، ولو ولدت لأبوين مسيحيين، فأغلب الظن أنني كنت أكون مسيحيًا، والعبرة ليست بأن تولد على الدين، بل العبرة في التزامك بالقواعد الأخلاقية والقيم الروحية لهذا الدين، أديان البشر جميعًا لها قيم روحية وأخلاقية، كلها تدعو إلى المحبة والأخاء والسلام والعدل، وليس فيها دين واحد يدعو إلى الكراهية والتعصب والحقد أو يبيح لصاحب الدين أن يعتدي على أديان الآخرين.
لقد علمتني التجربة أن المسلم الفاضل الصالح والمسيحي الصالح الفاضل: سواء، وأن المسلم غير الصالح وغير الفاضل والمسيحي غير الصالح وغير الفاضل: سواء.
ونحن المسلمين نقول أن الدين هدى من الله يمنحه لمن يشاء، ومهما يفعل الإنسان فو لن يستطيع منح الهدى لغيره، لأن الله وحده هو الهادي، وكل ما تستطيعه هو أن تدعو إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن تدع الناس وما يشاء الله لهم من الهداية، وكل ما يُرجى منك أن تسير على قواعد دينك أنت، وتلتزم بالخط الخلقي الذي يرسمه لك دينك، وستجد أن هذا الخط الخلقي يدعوك إلى محبة الآخرين واحترام عقائد الآخرين.


وأنهى كلماته الجميلة بقوله:

وأمامك بلاد الدنيا فانظر للمآسي التي سببها التعصب للدين، لم يكسب إنسان واحد من فتنة الدين في أي بلد من بلاد العالمين
ونحن هنا في هذا الوطن المصري المبارك نحمد الله على أننا سرنا في تاريخنا كله على قاعدة التسامح والأخوة في الوطن، وسنظل على هذا المسلك الآمن إلى نهاية الزمان
والله يحفظنا من سيئات نفوسنا، ومن نزغات الشيطان التي أضلّت الناس في غير هذا البلد الكريم وجلبت عليهم الويلات بلا حدود


وأدري أن الكلمات الأخيرة تجلب الآن ابتسامة ممزوجة بحسرة، ولكن تاريخ هذا الوطن المضيء أكبر من حاضره، والفترات المظلمة وإن طالت، فهي لا تغيّر طبيعة أصيلة نمت واستحكمت فيه طوال السنين

No comments: