Wednesday, December 7, 2016

برج بابل المائل



لاحظت د. منى حسين مؤنس، هذه الصورة:


وهي صورة ضمن صور عديدة أُلتقطت لهم في المؤتمر الصحفي المقام في يناير عام 1979 على هامش اجتماع قمة انعقد بجزيرة  جوادلوب الفرنسية، وتضم الصورة الأربعة الكبار: الرئيس الفرنسي وقتذاك جيسكار ديستان في أقصى يمين الصورة، وجيمس كالاهان، رئيس الوزراء البريطاني، وجيمي كارتر، الرئيس الأمريكي، وهيلموت شميت، المستشار الألماني

وليست هذه الصورة تمامًا المنشورة بمقالة د. منى مؤنس، القديمة،، فلم أجدها بذاتها على نتيجة البحث بجوجل، ولكنه نفس اليوم والموقف مع اختلاف في ترتيب الشخصيات الأربعة واختلاف أوضاعهم بطبيعة الحال

لاحظت د. منى مؤنس، شيئًا طريفًا في تلك الصور المجتمعة لهم، فقالت:
أنهم رغم لبسهم لبذلات من النوع الغربي العادي، فأن كلا منهم اختار بذلته وطريقة لبسها بأسلوب يبيّن الكثير من سمات شعبه، فكالاهان مثلاً يرتدي بذلته من لون رمادي داكن، وفي جيب السترة وضع المنديل الأبيض التقليدي حتى يكون لبسه لائقًا للمناسبة، وهو بذلك يصوّر حرصه المتوارث على المحافظة على التقليدية الإنجليزية، إذ أنه من المعروف أن الشعب الإنجليزي في ماضيه كله يتمسّك بكل ما هو تقليدي

وإن نظرنا إلى جيسكار ديستان، سنجده يرتدي بذلة مناسبة ولكن هنا أيضًا تظهر السمة الفرنسية العريقة وهي الأناقة، فانظر إلى لون البدلة وإلى رباط الرقبة المتشي معها!، وإلى وقفة ديستان نفسه وإلى خط البذلة، فهو عبارة عن تجسيد الأناقة في الملبس، وهذه الأناقة سمة معروفة يتميّز بها الشعب الفرنسي عبر تاريخه، وما زال يحتفظ بها حتى الآن فهو غيور عليها

وإذا دققت النظر في هيئة الرئيس كارتر ستجد هنا أيضًا السمة الأساسية في الشعب الأمريكي، فهو من ناحية تقليده كشعب فهو شعب مختلط الأصول لأنه تكوّن من أنواع بشرية من بلاد شتّى، ثم حدث نوع من التحام السلوك والتفكير والأذواق المختلفة تعيش جنبًا إلى جنب، فالولايات المتحدة الأمريكية حديثة العمر، ولم تستطع أن تنشأ تقليدًا وسلوكًا أمريكيًا يوحدّها، وهذا – وستوافقني على ذلك – يتجلى بصورة واضحة في لبس رئيس دولتهم، فانظر إلى البذلة ذات اللون الفاتح والرسم المخطط، ثم إلى رباط الرقبة ذي المربعات، ثم الحذاء الذي لا يتفق لونه إطلاقًا مع باقي ما يرتديه .. فهنا إذن نجد السمة الأمريكية المميزة وهي اختلاط الأصول: مجسّدة في رئيس دولتهم

وأخيرًا أنظر إلى الرجل الألماني، فألوان ما يرتديه ملائمة من ناحية اللون، والبذلة في حد ذاتها ملائمة للمناسبة، ولكن انظر إلى مقياس السترة، فهو عريض عليه، وإلى طول البنطلون فهو أطول من مقياس ساقيه، وهنا تتبلور السمة الألمانية التي عُرف بها الشعب الألماني عبر تاريخه، وهي الروح العملية، فالألماني يحب العمل ذا النتيجة المثمرة، والمستشار الألماني كما تراه في الصور يجسّد ذلك، فهو يظهر بصورة لائقة للمناسبة ولكنه أهمل المظاهر، فهو يكرّس حياته للعمل فقط ويهتم بالمضمون أكثر من اهتمامه بالمظهر

وكان حديثها في تلك المقالة عن ضرورة أن نعتزّ أكثر كمصريين بهويتنا في عالم تتلاشي الحدود فيه يومًا بعد يوم، بعد أن رأت طغيان تقليد مظاهر الحضارة الغربية في المجتمع، وتاريخ مقالتها يرجع إلى أوائل الثمانينيات، فوضعت هذه الصورة، وقالت رغم أن الصور تمثّل أبرز رجال الغرب السياسيين، والمتقاربين أصلاً في الفكر والتقدّم، ولكن كلٌ منهم مع ذلك يتمسّك بتقاليده وتراثهم وعاداتهم، لذلك هم كشعوب لم يفقدوا شخصيتهم وسط طغيان التقارب الثقافي والحضاري والتكنولوجي الغربي، وتمنّت أن نكون مثلهم، محتفظين بعاداتنا رغم المظاهر الموحّدة

هذا جميل!، تقريبًا!، لأن هذه المقارنة الآن متعذّرة كثيرًا، ثم أنه قد يقال أنها ترجع في الغالب إلى السمات الشخصية، لا القومية، كما أن هذه المقارنة ستدفع تلقائيًا إلى نقلها إلى العصر الحاضر، الآن!، فهذه صورة من اجتماع قمة أيضًا، انعقدت هذا العام (2016):



وجميعهم فيها يرتدون البذلات الغربية، وكلهم – لسخرية القدر – لا فرق بينهم!، فهل هذا يعني أن التقارب وصل إلى حدود غير مسبوقة بسبب ثورة الاتصالات في العقود القليلة الماضية، فأضاع الجميع شخصياتهم وانصهروا في بوتقة واحدة، هذا ممكن!، لأنه كان من السهولة بمكان أن نفرّق بين قناصل ورجال دولتيْ أنجلترا وفرنسا، وبين رجال الدولة المصريين والشوام والأتراك، في العشرينيات والثلاثينيات وما حولهما، لأن الأزياء كانت متباينة والسمات القومية المتفرّدة لا تنكرها عين

ولا أدري إلى ماذا قد يؤدي الأمر؟!، فالعادات والتقاليد والتراث أصبحت جميعًا في مهب الريح، واللغة الإنجليزية في حال لم تكن اللغة الأولى للفرد فهي مباشرة لغته الثانية إذا كان نال حظًا من التعليم المدرسي في وطنه، ولكن هذا لا يعني أن العالم يسير إلى أن يكون جزءًا واحدًا متحدًا، فبرج بابل قائم أبد الدهر، ربما سيميل كبرج بيزا، ولكنه لن ينهار، فالاختلافات قائمة دائمًا، ولو لم نجدها لاخترعناها!، ولنا عبرة في افتراق اللغة اللاتينية التي كانت توحّد بين بلاد الامبراطورية الرومانية، فتكوّنت منها في كل بلد لهجته الخاصة منها، فكانت: الفرنسية والإسبانية والبرتغالية والإيطالية والرومانية، وكأن هذا قانونًا من قوانين الأرض، قد أبصره المتنبي كغيره، وإلا لما قال:

كُلّمَا أنْبَتَ الزّمَانُ قَنَاةً
رَكّبَ المَرْءُ في القَنَاةِ سِنَانَا

ولكن الشيء المخيف قليلاً كما أراه، هو أن الزيّ المختلف، والتقاليد المختلفة، والبيئة المختلفة، كل ذلك كان يسهم بنصيب في درجة الاختلاف، فما الظن إن اختفى الزيّ والتقاليد والبيئة، إذًا مَن سيتحمّل عبء الاختلاف كله هو الشخصية العارية المعنوية وحدها، وسترى أنها يجب أن تعوّض مظاهر الاختلافات الأخرى المختفية من الصورة، وفي الحقيقة لا أدري كيف أعبّر عما أراه، ولكنها صورة مظلمة كالنظر ليلاً في بئر بلا قاع في طقس بارد!

No comments: