Saturday, January 14, 2017

الدانوب الجديد جدًا




لعلَّنا نعرف ما الذي حدث في منتصف الطريق!، وهذا كتاب قصير اسمه "الدانوب الجديد" عن رحلة تبادل ثقافي قام بها المؤلف مع آخرين إلى رومانيا عام 1958، والدانوب هو النهر الذي يمرّ برومانيا، والمؤلف هنا هو أحمد حمروش، من الضباط الأحرار، والذي استقال من الجيش للتفرغ للعمل في الصحافة، وصاحب الكثير من الكتب السياسية والعسكرية وغير ذلك، وكانت هذه بعثة رسمية من مصر بعد الثورة إلى تلك الدولة التي تسير على خطى تطبيق الاشتراكية

وكان على طوال الكتاب الذي يستعرض يوميّات هذه الزيارة الرسمية يقول أن الدولة هناك تتحكم في كل شيء تقريبًا في الأسواق وأسعار السلع والمطاعم ومؤسسات التعليم والإذاعة والصحافة والمسرح وحتّى النوادي الليلية والكابريهات، كل هذا تملكه الحكومة، ولأنه من الضباط الأحرار ولأن هدف البعثة أصلا هو التعلّم من "التجارب الناجحة" للدول التي سبقتنا على مضمار الاشتراكية، لذا فقد رأى ببساطة أن هذا التحكّم الحكومي يعود بالخير على الجميع، ففي الأسواق اختفى الفصال واختفت فروق الأسعار بين المناطق المختلفة لأن الحكومة هي مَن توزّع المنتجات وتحدّد الأسعار، وأن مستوى التعليم في ارتفاع ملحوظ، وأن هناك مساحة من حرية النقد والانتقاد في الصحافة والمسرح، وأن المؤلف رأى بنفسه رسمة كاريكاترية في إحدى الصحف تمثّل وزيرًا في الدولة وقد أُغرق في الطين حتى رأسه بينما العمال يشاهدونه من الشرفات ويقولون له: "أن هذا جزاء عملك يا سيادة الوزير!"، وعدَّ ذلك من حرية الصحافة هناك التي هي تحت ملكية الحكومة، ما دامت لا تتعرّض مباشرة لنظام الدولة ذاته!

أي ما لم يقله صراحة أن الدولة موافقة جدًا على هذه الحرية ما دامت لا تمسّها في سياستها الرئيسية، وهذا بالطبع مع الكثير من الأرقام الاشتراكية وجمعيات التعاون وإنتاجيات المصانع وغير ذلك، كأهداف أي بعثة ثقافية، مع الكثير أيضًا من ذكر أن هذا النادي أو ذاك كان من قبل قصرًا ملكيًا لملك رومانيا السابق قبل الإطاحة به، وها قد آل للشعب الذي يحكم الآن!

لا أدري هل كان المؤلف مُغيَّبًا، ولا سيما أن إقامته من رومانيا لم تطل، وعاد منها بعد أيام لينشر بعد شهور قليلة كتابه هذا، أم تُرى كان يدري ويدرك أن الصورة لم تكن وردية قط، وأن الحكومة التي أعجب بتحكمها في كل شيء، كانت أسوأ من العهد السابق وأكثر استبدادًا، ووصلت أرقام ضحايا إجراءات القمع التي أتخذتها لتكميم الأفواه المعارضة من فض مظاهرات بالقوة والسجن والنفي والتصفية بالقتل على يد عصابات غير رسمية تابعة للحكومة، في ذلك العهد الذي يعجب به المؤلف: إلى عدد يدور حول 2 مليون ضحية

ويكفي أنه يسمّي فترة الاحتلال السوفيتي لرومانيا في تلك الفترة المجيدة التي يتحدث عنها، باسم: "تحرير رومانيا على يد الجيش السوفيتي"!، بينما التعبير الوحيد الموجود الآن في التاريخ هو: "فترة الاحتلال السوفيتي لرومانيا"، وأنا أصدق التاريخ!

ورأى في بوخارست محلاً تجاريًا خاصًا لسيدة رومانية، ورأى الأسعار فيها مختلفة عن أسعار الحكومة الأقل، ولأنه كان في مقام مدح للحكومة مع نفسه فقد قال إنها قالت له أنها تواجه منافسة رهيبة من الحكومة التي توزّع كل المنتجات على محلاتها في بوخارست والأقاليم بأسعار تقلّ كثيرًا عنها في أي محل خاص، ولكن المؤلف مرّ على تلك الكلمة مرورًا رأيته ساخرًا، وقال أن احتكار الحكومة هو الخير كله، لأن ذلك يضبط الأسعار وستضمن أنه لن يغشّك صاحب المحل الخاص أو يحاول أن يبيع لك بضاعة قديمة أو فاسدة، ثم يقول أن المحلات التجارية الخاصة أصلاً بما فيها محل تلك السيدة، أصبحت اليوم (حينذاك) في دور التصفية (يقصد الإفلاس ولكنه لم يكتبها) وأن أصحابها يختفون يومًا بعد يوم

ولا أفهم في الاقتصاد صراحة، ولكنه كان قبل هذه الكلمات مباشرة يقول عن المنتجات الرومانية الحديثة أنها لا تتميّز بالأناقة ولا تُغري بالشراء على أي حال، مقارنة بما تنتجه باريس مثلاً، فضلاً عن كونها غالية السعر بدرجة يشتكي منها الرومانيون أنفسهم، فما كانت فائدة هنا حقًا عندما قال أنه من الظلم مقارنة الأسعار بمثيلاتها في الرخيصة في مصر (حينذاك أيضًا!!) لأننا لن نضع في الاعتبار عامل مستوى الدخل للفرد، ما من فائدة من هذا الإيراد الذي قاله لأن .. لأن .. الذي كان يشتكي من الأسعار هو الشعب الروماني نفسه حسب حديثه مع بعضهم!

وينهي كتابه بهذه الكلمة الجامعة:
الحكومة هناك تحترم تقاليد الشعب، وتنحني دائمًا لرغبات الجماهير، الحريات التي كان ينعم بها لا تسلبها من يده تحت شعار "تحقيق الاشتراكية"، ولكنها تترك للأيام ولتيار الثقافة الذي يصبّ في العقول أن يحقق كل أهداف الحياة

وهي كلمة غالية!، رأيت فيها أنه ما دامت الدولة وضعت تحت تصرّفها كل منابع الثقافة وأمّمتها لصالحها، مع ترك هامش حرية ضئيل للجميع في الوقت الراهن على ألا يهاجم أو ينتقد نظام الدولة وغير ذلك فلا يهم، فأنَّ الزمن سيلعب لصالحها، وهذه الحرية الصغيرة لن تعمّر سوى اليسير، جيلاً أو أثنين!، ثم يحقق النظام الحاكم: "كل أهداف الحياة"!، كما قال، وهذه طبيعة النظام السياسي ولا تثريب عليه!، وقد تحققت بالنار والدم، وانتهت هذه الحقبة الاشتراكية-الشيوعية من تاريخ رومانيا بالثورة عليها بعد أن تحوّلت إلى ديكتاتورية بغيضة وحكم رئيس أوحد، وما زالت رومانيا إلى الآن من أقل الدول الأوروبية نموًا!، ومن أكثر الدول الأوروبية إعلانًا للإفلاس على نطاق الشركات، ومن أكثر الدول الأوروبية أيضًا إستدانة من خزينة الاتحاد الأوروبي!

ولكن نقطة مضيئة في هذا الكتاب، فأن المؤلف معروف باهتمامه بالمسرح، لذا فأكثر ناحية تحدّث عنها في رومانيا هي ناحية أحوال المسرح هناك من جولاته على المسارح وذكره لأسماء المسرحيات المعروضة حاليًا، والتي شاهد بعضها، ولقائه مع الفرق والممثلين ورجال إدارة المسارح، وبيّن أن الشغف المسرحي كان بارزًا خلال هذه الرحلة، لدرجة أنه أعجب هو وفتوح نشاطي (مخرج مسرحي معروف) بمسرحية اجتماعية رآها هناك ولخّص أحداثها سريعًا في حماسة، وسعى إلى مقابلة رجال المسرح في معهد العلاقات الثقافية المقام هناك، من أجل أن يحصل على نسخة مترجمة للإنجليزية أو الفرنسية من تلك المسرحية لعرضها بعد تمصيرها على المسرح المصري "بما يوافق ظروف المجتمع" كما قال، ولم تكن ثمّت نسخة مترجمة إلى أي لغة بعد، ولكن المعهد عندما عرف بنيّة إخراجها في القاهرة بادر بنفسه بعرض ترجمتها والقيام بإرسالها للقاهرة عند الانتهاء منها


ولكنها نقطة واحدة غارقة وسط بحر من الظلام، وكان من الأجدر به أن يعلم أن الذي شاهده من نظافة وبساطة وتحضر واجتماعية وحب الشعب الروماني للحرية والمسرح والكتب وتقديس العمل والحشمة وجميع قيم الحضارة الفاضلة الأخرى، إنما يرجع إلى سنوات طويلة قبل ذلك، وليس نتيجة حتمًا لفترة سياسية عابرة فُرضت عليهم من قبل الأقوى والأبطش!

2 comments:

P A S H A said...

- مدونتك جميلة ورايقة وأسلوبك رشيق وموجز وعرضك أكثر من رائع. استمتعت فعلاً بالقراءة والتحليل، شكراً جزيلاً لك.
- ما باحبش السياسة .. بس بمناسبة رومانيا ممكن أرشح منها كام فيلم حلوين شفتهم من فترة:

The Death Of Mr. Lazarescu - 2005
4 Months, 3 Weeks And 2 Days - 2007
12:08 East Of Bucharest - 2006
:)

أحمد فضيض said...


ومن الذي يحبها :D
وهي فرصة لعودة مشاهدة الأفلام الحديثة، وحقيقي شعرت بالدهشة من تشابه ظروفنا وظروفهم قبل وبعد الثورة

وشكرًا لكلامك الطيب الذي أسعدني :)