Friday, January 20, 2017

الشعر فن جميل


في ديوان حافظ إبراهيم، بيتان، كُتب عندهما:
"قال هذين البيتين مرتجلاً عندما تولّى (نجيب الهلالي بك) وكالة المعارف للتعليم الفني والفنون الجميلة، سنة 1929"
وهذان البيتان:
أضحى (نجيبٌ) وكيلاً        لنا، ونَعْمَ الوكيلُ 
 فَلْيَنْعَمِ الشِّعْرُ بالاً       فالشِّعْرُ فَنٌّ جَمِيلُ

وحافظ كان آنذاك يعمل في دار الكتب المصرية، وهي تابعة لوزارة المعارف بصفة عامة، وإن كان قسم التعليم الفنّي  الذي عُيّن الهلالي وكيلاً عليه بعيدًا كل البعد عن المنصب الذي يشغله حافظ إبراهيم كرئيس للقسم الأدبي بدار الكتب، وبعيدًا كل البعد كذلك عن كل ما يتصل بالأدب والشعر في شئون الوزارة، فقسم التعليم الفني والفنون الجميلة كان يشرف على"مدرسة الفنون الجميلة" التي أُنشئت عام 1908 في مصر، والتي كانت لا تخرج عن التخصصات الأربعة: النحت والتصوير والزخرفة والعمارة، أي أن وكالة الهلالي للتعليم الفني والفنون الجميلة قاصرة على إشراف الوزارة في هذه التخصصات الفنيّة وحسب ولا تتعداها، ولكن لتقدير حافظ لشخصية نجيب الهلالي وما عُرف عنه من نزاهة ووطنية صادقة جعلته يقول هذين البيتين، ويرى أنه ما دام الشعر فنًا جميلاً، فأن نجيب الهلالي بوكالته على الفنون الجميلة قد أضحى وكيلاً على الشعر أيضًا

ولا أدري هل كان يدري حافظ أن هذا التعريف الواسع للفنون الجميلة كان يُعمل به في الغرب، أم قال ذلك دون اتفاق، فعندما ترجم الدكتور الطاهر أحمد مكي، كتاب المستشرق الألماني فون شاك: "شعر العرب وفنهم في إسبانيا وصقلية"، آثر أن يقسّم الكتاب إلى جزئين، الشعر، والفن، وأن يطبعهما منفصلين دون كتابة "الجزء الأول" أو "الثاني" على غلاف أيهما، ولكن مع الإشارة إلى ذلك في المقدمة، وبرّر هذا:
ذلك لأن العالِم الألماني يزاوج بين الشعر والرسم، يأخذ من الثاني للأول، ويستشهد بهذا على سابقه، لما بين الفنَّين، أو الفرعيْن من الفن إذا شئتَ، مِن وشائج وصلات، ومِن هنا فإن أحد الكتابين يكمل الآخر فكرةً وموضوعًا
ولكن صنيع د. مكي منعني أن أشعر بالدهشة الأولى وقتذاك، وجعلها تتأخّر قليلاً إلى أن طالعت كتابًا مرجعيّا (Textbook) عن الفنون، كتابًا واحدًا ضمّ بين دفتيه تاريخ ومذاهب الرسم، والنحت، والتصوير، والعمارة، والأدب، والدراما، والرقص، والموسيقى، معتبرًا إياهم جميعًا "فروعًا" من شجرة الفن،  حسب التعريف الموسوعي للفن، الذي يعرّفه بأنه "المتنفّس التعبيري للإنسان عن ثقافته"

إنها دهشة أولى أن أرى حديث الرسم والألوان والنحت والعمارة يجاور حديث الاستعارة والرمز والتشبيه والعَروض في الشعر، وهذا جعلني أدرك أكثر معنى استخدام الأدوات التي نملكها من أجل أن يُنجز العمل، وكلمة "العمل" على جفافها هي ما تُطلق على أيِّ مُنْجَز، وهيهات أن أقلل بذلك من دور الموهبة، فهي تأتي أولاً، وهي الأداة الأولى، ولولا موهبة الفنّان (بالمعنى الواسع لكلمة الفن) لما توجّه لدراسة بقيّة أدوات صنعته، فرسم اللوحة: حرفة، والنحت: حرفة، وعزف مقطوعة: حرفة، وكتابة قصيدة: حرفة، وإن بدا هذا تحقيرًا من شأن الفن، ولكن المثل يقول إنه إذا جُمع جميع الرجال العظام في التاريخ فلن يشغلوا سوى غرفة واحدة، فالدراسة إذن سيلجأ إليها أصحاب الموهبة وغيرهم، على سواء، لأنها متاحة للجميع، ولقد سار وراء دافنشي العشرات من التلامذة يقتبسون من فنّه، ولم يبرز منهم سوى أقل القليل، ولكن مَن برزَ منهم نضجت موهبته على يد أستاذه العظيم، ومن كان موهوبًا ولم يسر وراء معلِّم قدير، فقد تبقّتْ موهبته فجّةً وغير يانعة، فيها لمحات من الموهبة، نعم!، ولكن مَن سيشاهدها أو يسمعها أو يقرأها سيردّد دائمًا بينه وبين نفسه: "آه لو استكمل هذا الفنّان أدوات فنّه!"

وحتّى قبل أن يعرف العرب علم العَروض بشكل متكامل ومنهجي على يد الخليل بن أحمد، كانوا "يعلّمون" أولادهم الشعر عن طريق الدرس والتعليم، لا المحاكاة وحسب، ويُروى عن الخليل في قصة استنباطه لعلم العَروض، أنه لما وفد المدينة المنورة حاجّا في طريقه إلى مكة استرعى نظرَه شيخٌ أقبل على فتى يلقنه: "نعم لا نعم لا لا - نعم لا نعم لا لا - نعم لا نعم لا لا - نعم لا نعم لا لا"، فقال له الخليل: "ما هذا الذي تقول لفتاك؟"، فقال الشيخ: "علم يتوارثونه عن السلف يقال له: التنعيم"، فقال الخليل معقبًا إثر حكايته لتلك القصة: ".. فأحكمتُها بعدُ"، أي قد حكمَ شروط هذا العلم المتوارث من السلف، ثم وضع له أسسه والقواعد التي يقوم عليها، فكان علم العَروض، وكان الخليل بن أحمد حلقة واحدة في سلسة متصلة من أقرانه


فهو حديث خرافة وقول ضلال، ذاك الذي يقول أنّ دراسة صنعة الفنّ تقتل الموهبة وتحجّر الخيال، فهذا افتراض لا نصيب له من الصحة، وفتِّش فلن تجد فنانًا "مقطوعًا من شجرة"!، بل ستجده في أحاديثه ذا نظرات ثاقبة في الكثير من أعلام ومذاهب ومدارس فنّه، وأحسب أنه متى ما تحرّكتْ الموهبة في البدن وأعلنت على وجودها، كلما حرّكت في صاحبها الحاجة إلى إشباعها، وإشباعها ذاك لا يتأتّى إلا بالنهل من موارد روّاد هذه الموهبة السابقين والسير على آثارهم حينًا من الدهر، وهذا هو ما يُسمّى بالتعلّم، وكأنّ حركة تلك الموهبة تدفع صاحبها دفعًا يراه لا إراديًا، كي ينتظم في سلك التاريخ مع أقرانه، ففي هذا العالم البديع لم يُخلق شيءٌ وحدَه فردًا، بل: "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ"

وأسوأ الكوابيس قد تتحقق، فقد يولد المرؤ مع موهبة مضطرمة بين جوانحه، ثم يجد أن سبيل التعلّم الذي سلكه لصقلها قد أطفأها!، لأنه لا نار دون دخان، فجميع هذه الأقوال التي قيلت عن التحجّر الذي يأتي إثر التعليم تتكأ على حقائق ملاحظة وواقع معاش، ولكنها الاستثناء الذي يدعم القاعدة، وشوقي يقول في مسرحية قمبيز، بيتًا جميلاً يجسّد هذا الاستثناء:
إنَّ وَرْدَ السَّلْمِ من كثرته
        ِنسيتْ أظفارَها فيه الأسودْ
أي أن طول عهد السلام جعل الجيش الباسل يركن إلى الراحة والدعة، فسُهلت هزيمته وكسره عند المواجهة التالية، أو كما قال توفيق الحكيم:
كثير من الناس يعيشون طويلا في الماضي، والماضي منصة للقفز لا أريكة للاسترخاء
وكذا فإن كثرة الإغراق في المادة النظرية وتقليد السابقين، سيجعل المرؤ ذو الموهبة يركن إلى هذه الراحة التي وجدها وسط النظريات، ويسترخى عندها، لأنه سيكون مطئمنًا أن في جعبته الكثير من النظريات حول إنجاز العمل، وهي جميعها نظريات ناجحة، ود. محمد عناني خلال حديثه عن فن الترجمة حاول أن لا يكثر من ذكر نظريات الترجمة والإسراف في ذكر مناهجها، وكان هدفه الدائم هو التطبيق ثم التطبيق، ثم الحركة الدائبة في الترجمة، وحكى عن صديقه الذي كان لا يفتأ أن يحدّثه بآخر النظريات الجديدة في الترجمة، وأبدى د. عناني تعجّبه، لأن صديقه هذا كان من أقلّ الناس عملاً في الترجمة ذاتها، وكأنَّ الامتلاء بالنظريات المجرّدة يطغي على حركة التطبيق، فالحركة في العمل هي ما تجعلك تواجه المشكلات – ولا بد من ذلك – ثم ستهتدي – ولا شك – إلى طرق لمجابهتها أو الدوران حولها حتّى، ومن خلال هذه الحركة سيقف الفنّان في مكانه الشاغر في دورة الزمن والتاريخ، وغير ذلك فلن ينفعه طول ما حصّله من تعلّم في حياته، وربما سيجلّس متحسرًا في أخريات حياته ويقول مثلما قالَ مَن سبقه واكتشف هذا الأمر مثله بعد فوات الأوان:
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه: قيلَ وقالوا