رغم وفاة "المأمون أبو شوشة" عن سبعة
وثلاثين عامًا في بداية ستينيات القرن الماضي، إلا أن هناك الكثير ممن يتذكره،
ولكن ليس لشعره، وهذا ديوانه الأول، والأخير، وطُبع بعد وفاته، مع مقدمة كتبها أحد
نقّاد الأدب، وختمها بهذه الكلمة: أنه "ما كاد يغنّي حتّى أُسكت"،
ولكنهم يتذكرونه لشخصيته، فهو كان يقدّم في الإذاعة برامج ساخرة منها: ساعة لقلبك،
وصواريخ، إلى جانب موهبته في تقليد أصوات المشاهير وقول الأزجال الساخرة، والتي
بهذه المناسبة لم يضمّها ديوانه هذا
وديوانه الأول هذا كنت أودّ أن أرى شخصيته فيه، فلم أرها
سوى في قصيديتين، أولهما قصيدة "الشعب ثار"، وخاطب فيها بسخرية
"ركيكة" الملك السابق، وبدأها قائلاً:
مولاي يا أغلى ملك
يامالك الدنيا بما وسعتْ، وأعدل مَن ملكْ
يا أحكم الحكماء رغم الأغبياء
يا أعلم العلماء رغم الأدعياء
ماذا يقول الأغبياء الأدعياء
الشعب ثار
في وجه مولاه الدولار
لا لا محال
محض افتراء ما يقال
الشعب شعبك كله ملك اليمين بضيعتك
أوَ لست صاح تاجه والصولجان
أوَ لست مولاه العظيم الشاه قدّيس الكيان
وحليف سادته العظام الطيبين الأمريكان
لا تكثرث واحكم فحكمك ما تراه
سيّان ثار الشعب في وجه الدولار أو الطغاة
..
إلى آخرها، ورغم ركاكتها الظاهرة إلا أن إطارها الساخر
يعكس كالمرآة شخصية محدثها وهذا خيرٌ من ألف قصيدة عصماء لا نرى خلالها وجه قائلها
وأما الثانية، فهي قصيدة "أغدًا أموت؟!"،
ولأنه مات شابًا فقد أُثرت عنه:
أغدًا أموت؟
وتموتُ في قلبي الحياةْ
وتذوبُ كلُّ عواطفي بين الترابْ
وتروحُ كل خواطري ورؤى الشبابْ
وأعودُ شيئًا لا يُحِسُّ ولا يُحَسُّ ولا تراه
..
أغدًا أموت
وتموتُ هذي الأغنياتْ
وتموتُ أحلامي الطموحة والرؤى والأمنياتْ
..
وغير ذلك فكنت أودّ لو سمح لشخصيته المرحة بالظهور عبر قصائده،
لا عن طريق تقديم البرامج الساخرة بالإذاعة، ولا بالأزجال الفكهة، فليس الشعر
حكرًا على الكلام الرصين أو العاطفة المعذّبة أو الدمع والأنين!، فقصائد الحب التي
تملأ صفحات هذا الديوان رأيتها مرارًا من قبل في التجارب الأولى للشعراء، وهي بكل
يقين لا تتكأ على تجربة، أو تتكأ في أفضل الأحوال: على تجربة ضحلة، ولا أدري هل
هذا ما قصده كاتب المقدّمة أو لا؟، عندما بدأ مقدمته قائلاً:
إنّ أول شيء يقابلنا هو أن العالم الذي كان يكتب عنه
الشاعر عالم غير حقيقي، فهو عالم خيالي مملوء بالضباب والوهم واليأس، وهو عالم
عليل يقف على نهايته باب ضخم يفضي إلى الموت مباشرة
فالحبّ الذي يعدّ القوت الضروري للشعراء، والذي ظلّ شعلة
موروثة يتسلّمها الشعراء جيلاً بعد جيل .. [إلخ إلخ إلخ] .. هذا الحب نراه عند
"المأمون أبو شوشة" – برغم شبابه – شاحبًا وحزينًا يكاد يتساقط من
الإعياء والشك وعدم الثقة فيه ..
ولا أحب أمثال هذا النقد على أي حال وقرأته بعد قراءة
الديوان كأداء واجب، ولكن من القصائد التي تجزم بعدم وجود هذه التجربة من أساسها،
قصيدة "أغار عليكِ منكِ"، وقدّمها بمقدمة نثرية صغيرة تقول كلماتها:
قالت: تغار عليّ؟، قلتُ: منكِ!، قالت: تحبّني؟، قلت:
أحبّكِ أكثر من الروح!
ثم تبدأ الغيرة:
أغار عليكِ يا خفق النسيم وبسمة الوردِ
أغار عليكِ منكِ لإنني أهواكِ لي وحدي
.
أغار عليكِ من مرآتكِ الحمقاء يا سمرا
ستكشف عن مفاتنك الحسان وترفع السترا
.
أنا: انتظر!، لحظة!، لماذا تغار عليها من مرآتها، ماذا قد تفعل
بها؟
هو:
.. ترينَ بها جمالكَ صورةً دفّاقةَ الحسنِ
وتجلو سرَّ ما بين الشفاه الحمر والعينِ
أنا: آها، فهمت!، آسف!، أكمل ..!
هو:
أغار عليكِ من عينيك من تيّارها الغامر
وأخشى أن ترى سحرَ الهوى في حسنكِ الغامرْ
أنا: لحظة!، آسف مرة ثانية!، لماذا حقًا تغار عليها من
عينيها هي، وماذا حتى لو رأت عيناها جمالها، فهما لها، وليستا لغريب مثلا؟!
هو:
.. فتهوينَ الذي أهواه فيكِ، وأنتِ إغراءُ
وكلُّ مُناي أن أهواكِ وحديِ، أنتِ حسناءُ
أنا: آها فهمت!،آسف!، وأعذرني لبطء فهمي، إذن، عيناها
المركّبة في أمّ رأسها إن رأتا جمالها عند مطالعتها لنفسها في المرآة ستعشق صاحبة
الوجه، ولأنها هي نفسها عينا صاحبة الوجه، فهذا سيؤدي أنها ستُغري نفسها بنفسها
ومن ثمَّ ستعشق نفسها، وهذا خطر عليك فأنت لا تريد شريكًا في حبك حتّى لو كانت هي
نفسها، أليس كذلك؟
هو:
أغار من الوجود عليكِ يا لي من حماقاتي
وحتّى أنتِ يقلقني زحامكِ في صباباتي
.
أخاف عليكِ حبكِ نفسَكِ، النفسُ التي أحببت
وحبّي أحمقٌ يأبَى شريكًا فيه .. حتَى أنت
.
أنا: نعم!، نعم!، هذا ما كنت أقوله!
.
.
ومن أسف فأن
قصائد الديوان غير مؤرخة، وكنت أحسبني سأستغرق وقتًا في قراءتهن لكثرتهن، إلا إنه
مرّ سريعًا، فلم يكن فيه الكثير مما يلفت النظر، غير قصيدة (بل: أغنية) "لو"،
فهي جميلة للغاية وتخيّلتها مغنّاة في يسر وعذوبة، وتلك الأبيات الأخرى لفتت نظري
وحدها كثيرًا، من قصيدة "المجنون والغانية":
يا أيها الزمنُ العجوزُ، وقد عشقتَ قتاليهْ
أنا ندّكَ العاتي، وصخرتُكَ الكئودُ العاتيةْ
حطّمتُ أقدارَ الوجودِ ..
وحطّمتني غانيةْ!
..
وددت وحسب لو لم يتكلّف صاحب الديوان القول، ولعلّها
كانت قصائد البدايات، ولعلّه كان سيستبعدها من ديوانه الأول إذا نشره بنفسه، مَن
يدري؟، فشوقي نفسه عندما كان يزمع في أخريات حياته في إخراج طبعة ثانية من ديوانه
كلّف أحدهم بالبحث عن قصائده القديمة المنشورة في الجرائد القديمة، ووُجد الكثير
منها، ولكنه كان يمزّق أكثرها في بساطة ورفض أن تنشر في ديوانه، إيه!، ربما ظهر "المأمون
أبو شوشة" بعد وفاته لجامع ديوانه ليعتب عليه صنيعه، وربما سأله كذلك عن
أزجاله أين هي، لمَ لم يثبتها مع أنها كانت أجمل ما عبّر عنه!