Sunday, November 20, 2016

المهاجران



المهاجران: محمد بن عبد الله، ويونس بن متَّى -عليهما الصلاة والسلام



ºº




"لماذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة؟!"، كنتُ أحسب أن هذا السؤال سهلاً والإجابة أسهل، فذلك هو السؤال الذي كنّا نأخذه في المدرسة صغارًا، وكنا نأخذ معه الإجابة المعتادة كأنه هاجر لاشتداد أذى المشركين عليه ووفاة عمه "أبي طالب" الذي كان ينصره ويحميه من بطشهم!، ولكنني في هذه المرة عندما طرحت هذا الصباح ذات السؤال على نفسي لم تقنعني هذه الإجابة على وجاهتها

ولماذا؟

لأن النبي عليه الصلاة والسلام مكث في مكّة 13 عامًا، يدعو قومه وغيرهم من الوافدين إلى مكة إلى الدين الجديد، وكان يطوف عليهم أفرادًا وجماعات وقبائل ومنازل وعشائر وهو يدعوهم إلى الله وينذرهم عذابه ويعدهم بنعيمه، ويقول لهم في كل حين: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم"، وكان يغشي أنديتهم وأسواقهم في المواسم المختلفة، وهذا كله من سُنة الأنبياء من قبله، وسيدنا نوح على طول الفترة التي دعا فيها قومه إلى دين الله لم يتّبعه سوى القليل جدًا، وهذه هي النتيجة الطبيعية لاستخدام أسلوب الدعوة والوعظ، أي: الكثير للغاية من استخفاف المستمعين بالواعظ وسخريتهم منه بل بإغراء الصغار بمشاكسته وقذفه بالحجارة في الشارع، ثم تذهب طرافة الموضوع حينذاك بالنسبة إليهم فيملّوه ويضيقوه به وبنصحه ووعظه، فيهددونه بالقتل أو الرجم أو النفي، بل أن الإمام الرازي عند تفسير آية: ﴿قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين﴾، قال: "وهذا يدل على أن الجدال في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء"

فهذه هي مهمّة النبي صلى الله عليه وسلم الأساسية وحرفته الأولى في أي زمان ومكان، وهي الدعوة والتبليغ، والقرآن قالها في صراحة في آيات كثيرة، منها الآية في سورة فاطر: ﴿إن أنت إلا نذير﴾، وهي آية بليغة وواضحة، فسّرها ابن كثير بكلمات قليلة رآها كافية غاية في الكفاية، فقال: "أي إنما عليك البلاغ والإنذار والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء

إذن لماذا هاجر النبي عليه الصلاة والسلام مع أن مهمته الأساسية كانت هي تبليغ الرسالة وتبشير المؤمنين بوعد الله حال إيمانهم به (البشير)، وإنذار الكافرين به بوعيد الله (النذير)، وفقط؟!، فلم يكن عليه هداهم ولا هو مُثاب عليه إن تحقق هذا الأمر أو لم يتحقق!، فلم يُؤمر بهذا قط!، إنها هو رسولٌ!، والله تعالى هو المتمِّ نوره والبالِغ أمره!، ثم حتّى ولو كذّب به كل قومه فحسبه أنه أدّى رسالته المكلَّف بها، فآيات سورة فاطر تلك تتوالي وهي تقول للنبي صلى الله عليه وسلم:
﴿إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ، إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ، ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا  فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ  

أي وإنْ حدثَ الأسوأ وكذّب به قومه كلهم، فهو قد أدى رسالته، حتى وإن كان خاتم الأنبياء!، فالخطاب الموجّه إلى النبي عليه الصلاة والسلام واضحٌ جدًا وبالخطوات: بلّغ وبشّر وأنذر أمّتك!، وإن صدّقوك فقد اهتدوا إلى الحق، وإن كذّبوك، عادي!، ﴿فقد كذّب الذين من قبلهم! ﴾، وإنك لن تهدي مَن أحببت!، ولكن في النهاية التي هي الحياة الحقيقية الباقية سيحاسبهم الله يوم الحساب

وسورة فاطر مكيّة، أي نزلت قبل التاريخ الذي هاجر فيه النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، وهي وإن قُرأت على أي وجه لا يُفهم منها سوى إنها ضدّ فكرة الهجرة تمامًا، ولا سيما بعد أن مكث في قومه وبلده 13 سنّة يدعو فيها قومه إلى الإيمان فلم يؤمن به إلا قليل!، وهي وإن قُرأت ألف مرّة أيضًا لا يفهم منها سوى إنها تدعوه عليه الصلاة والسلام دعوة صريحة إلى الاستمرار فيما هو عليه، أي فيما كان يفعله في قومه في مكة ومن الطواف عليهم منزلاً منزلاً وقبيلة قبيلة وهو يدعوهم إلى الله، أي: بشيرًا ونذيرًا!، وفقط!، والباقي كلّه على الله، وإن كذّبوه فدعهمْ وأنفسهم!، إن أنتَ إلا نذير!


إذن لماذا هاجر رغم تلك المعاني الواضحة، لماذا تخلّى عن قومه وسافر إلى بلد غريب عنهم؟!

أهو الأذى الذي ناله من قريش!، وهذه إجابة جميلة!، ولكنه عليه الصلاة والسلام، ما دام كان على الحق فلن يبالي بشيء قد يناله في سبيل الله، ولن يهتمّ به، وها هو الله تعالى يذكّره وهو في مكّة بما لاقاه الأنبياء السابقون عليهم السلام، ما بين تكذيب وتقتيل وتعذيب!، ثم يقول له: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾، وهذه آية واردة في سورة الطور، وهي سورة مكيّة، أي للمرة الثانية: نزلت في مكة قبل الهجرة، والآيات الأخيرة في تلك السورة المكيّة واضحة لمَن قرأها: فأولا: أصبرأصبر!، فنحن نرعاك في هذه المهمّة الجسيمة، ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا، وثانيًا: مهما اشتدّ أذاهم عليك يا محمد فإنّا ندفع عنك كيدهم فلن يصيبك منهم ضرر ﴿أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون﴾، وثالثًا: إن سخروا منك وقالوا إنك شاعر أو ساحر أو نبي كاذب نتربّص وننتظر أن تحلّ عليه مصيبة الموت فيكفينا شرّه بنفسه، فقل لهم يا محمد: تربّصوا كما تريدون فإن الآجال بيد الله لا بيدكم وها أنا منتظر معكم أن ينزل عليكم الموت كذلك!، والبادئ أظلم!، ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ

وهي كلها آيات نزلت قبل الهجرة، ولا تحضّ سوى على الصبر والاستمرار في الدعوة دون بديل آخر، مع الوعد بأنه سيحفظه ويرعاه ولن يجعل للظالمين عليه سبيلاً، هل هناك أمن وطمأنينة أكثر من ذلك؟!، ولكنه صلى الله عليه وسلم مع ذلك هاجر مع الأمر القائل: أصبر!

وهو أمر تكرّر مرة أخرى، ولكن بزيادة رادعة جديدة، فقد جاء معه ذكر يونس بن متّى عليه الصلاة والسلام، فقال الله عز وجل مخاطبًا نبيه: ﴿فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم، وجاءت في سورة مكيّة أيضًا، فللمرة التي لا تُعدّ قال: أصبرأصبر!، والإضافة الجديدة هي: ولا تكن كصاحب الحوت!


وتساءلت: ما الذي فعله صاحب الحوت هنا؟

وأجبت نفسي: لقد ترك قومه بعد أن يئس من هدايتهم، ولم يصبر على دعوتهم، وخرج غاضبًا منهم ومن عدم استجابتهم لما يدعوهم إليه، فهاجر وتركهم!، لم يقل له ربه كما قال لنوح: ﴿ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ﴾، بل تصرف من تلقاء نفسه وحسب أن الله لن يضيّق عليه في أمر العقوبة، فعاقبه الله عقابًا فريدًا لم يعاقب به أحدًا من قبل، كما هو معروف ومشتهر في قصته عليه السلام، ولولا أن يونس عليه السلام كان من المسبّحين، للبث في عقاب الله له (في بطن الحوت) إلى يوم القيامة!، ولذلك فقد تداركه الله برحمته وعفا عنه، بل وكانت مفاجأة ثَمَّ في انتظاره، ليست مفاجأة وحسب وإنما هي عبرة من الله إليه

ولكن قبل هذا، أحسب أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان قد مرّ في خاطره بعد أن يئس أو كاد من أمر قومه، أن يهاجر إلى مكان آخر مثلما فعل من قبله الأنبياء النبيّ يونس بن متّى، وكان هذا الخاطر يلحّ عليه، مع أن الآيات المكيّة التي تتنزّل عليه تقول له صراحة: اصبر!، إن أنتَ إلا نذير!، ولست بمطالب بما فوق ذلك ولو كذّبك قومك كلهم!

ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يريد الهجرة مثلما فعل يونس بن متّى عليه السلام، فالله لن يأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بألا يكون مثل صاحب الحوت إلا لو كان فعلاً في هذه الأثناء يفكّر صلى الله عليه وسلم من قبل أن يكون مثل صاحب الحوت!، وإلا كان هذا التشبيه لا معنى له!

وأحسبه لم ير أن يسأل ربه ذلك بينما كان يعزّيه عز وجل في كل حين بذكر أخبار الأنبياء السابقين وما لاقوه ثم يوصيه في كل حين أيضًا بالصبر ثم الصبر ثم الصبر!، ولكن الله كان يدري لا ريب رغبته في الهجرة التي لم يصرّح بها ، ولذلك أحسب أنه تعالى قال له: ﴿ولا تكن كصاحب الحوت! ﴾، لأن هجرة صاحب الحوت كان دون استئذان، والله لم يأذن ولم يكن يبدو هذا في الأفق مع كثرة الأوامر التي تشجّعه على الصبر!، ولكنه وكأنه صلى الله عليه وسلم ضاق بالصبر وبمكاره قومه، وربما كانت تلك الآيات التي تتنزّل عليه في مكة وهي تأمر بالصبر ثم الصبر، ويكفيه البلاغ، كانت بمثابة ضغطًا قويًا عليه يمنعه من التصريح برغبته، والنبي صلى الله عليه وسلم – كما وصفه أبو سعيد الخدري – "كان أشد حياءًا من العذراء في خدرها"، وكما قال هو صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج: "قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ "

ثم فاض الإناء بما فيه، فعندما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وما قابله حينئذ من ضعف وهوان وقلّة حيلة أمام أهلها، تركها وقد أنهكه الأمر ودميت قدماه من الصخور التي كان سفهاء الطائف يقذفونه بها طوال الطريق، وجلس يستريح تحت ظل شجرة واقعة ضمن حدود بستان يملكه بعض أهل هذا المكان، وهناك دعا ربه بالدعاء المأثور:
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك

وفي هذا الدعاء المأثور الذي دعا به وهو في هذه الحال كلمة بارزة، فقد قرأتها وكأنه يقول إنه لا رادّ لمشيئتك!، فإن أردتَ اللهم أن يكذّب قومي كلهم بي ثم أصبر على هذا البلاء، فكما تشاء سأصبر على الضيم!، وإن أردت ألا يؤمن بي أحد وأن استمرّ في هذا الهوان على الناس وضعف قوتي بينهم وأن أصبر حتى تقضي بأمرك بينهم، فاللهم كما تشاء وسأصبر!، ولكن .. "ولكن عافيتك أوسع لي" .. "ولكن عافيتك أوسع لي" أي، بلى! هي مشيئتك، ولكنني اسألك العافية من ذلك (ومَن لا يريدها لنفسه) فإن نعم، فبها، وإن لا، وكانت هذه جرأة منه على الطلب بعد أن ضاق بالصبر، وهو النبيّ المرسَل الذي يسير على ما أمره الله به، فإذن: فقد أخطأتُ في هذه الجرأة و .. "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة ألا بك"  

وعند انتهائه من هذا الدعاء الحار، ظهر اسم يونس بن متّى!، مباشرة، فقد رقّ بعد هذا الدعاء قلب صاحب البستان، وقد رآه من بعد، فأرسل إليه غلامه النصراني "عَدَّاس"، بطبق من عنب البستان، وبقدح ماء، فتناوله عليه الصلاة والسلام منه، ثم جرى بينهما حديث قصير:
-     يا عداس، مِن أين؟
-     من أهل نيوني
-     من مدينة الرجل الصالح يونس بن متّى!
-     وكيف تعرفه؟
-     أنا رسول الله، والله أخبرني خبر يونس

وهذه هي بارقة الأمل الأولى في أن الله استجاب دعائه!، دعا وسأل الله العافية على البلاء، ثم يمدّ بصره فيرى غلامًا ودودًا قادمًا بهديّة، فاكهة وشراب، فـأكل وشرب، ثم سأله مِن أين؟، ثم علم أنه من مدينة الرجل الصالح يونس بن متّى، يونس الذي غضب من تصرّفات قومه فهاجر دون استئذان!

والاستئذان يعني أن الفكرة انطلقت من ذهن النبي يونس عليه السلام أولاً، فلم يقل له الله اهجر قومك!، أو اصنع الفلك!، أو يمّم شطر قرية كذا!، لا!، وكلّا،  كانت الفكرة فكرة سيدنا يونس عليه السلام هو وفقط! – مثلما كان يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر أيضًا – ولكنه لم يجرأ أن يفاتح ربه في فكرته، فكنّى بها بطلب العافية في أمره، والعافية في دعاء الطائف هي الهجرة دون شك، لأنني حسبت أن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء: "إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟"، هو قول لن يقوله سوى مَن كانت فكرة الهجرة مسيّطرة عليه، فهو لم يطلب من الله في هذا الدعاء الحارّ أن يهدي قومه أو يهدي أهل الطائف الذين أذوه، ولا طلب منه أن يعجّل بنصره ويظهر دينه، فالدعاء خلا من هذا كله، وانحصر في بيان حالته التي بلغ فيها السيل الزبى، وهو بين أولئك وبين أولئك لا يخرج – حسبما أمره ربه – عن  دائرة قريش ونفوذها، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في الطائف في الأصل كما تقول السيرة النبوية لكي يطلب النصرة والمنعة من أذى قريش له، ولكنه في دعاء يوم الطائف بعد الإهانات البالغة التي تعرّض لها، سأل العافية بعيدًا عن هذه الدائرة، دائرة قريش، دائرة قومه!، إلى أي مكان

ثم استجاب الله لدعائه، وأعطاه أمر الخروج عوضًا عن أمر الصبر!، ولأوّل مرة!، لأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه بهذا الدعاء كان في السنة العاشرة من البعثة، ثم أُستجيبَ لدعائه في تلك اللحظة ذاتها، ثم أعطاه ولقّنه الله أمر الخروج كما طلب، وأرشده إلى أن يقول كذلك أمرًا على جانب عظيم الأهمية يرافق طلبه للخروج، ثم جاءت السنة الحادية عشر من البعثة وجاءت معها بشائر تنفيذ الوعد، مِن بيعة العقبة الأولى، والتي فيها لأوّل مرة يرد ذكر المدينة المنوّرة، فقد وفد وفدٌ منها على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة ثم عادوا إلى قومهم يعلّموهم الإسلام، ثم مرّت تلك السنة والسنة التالية لها وانتشرت تلك الدعوة في المدنية انتشارًا عظيمًا، لتأتي السنة الثالثة عشر من البعثة ويأتي معها جماعة منهم إلى مكّة مرّة أخرى في بيعة العقبة الثانية، ويدعون النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلى زيارتهم في المدينة

أما تلقين الله عز وجل أمر الخروج هذا والأمر الثاني، لنبيه صلى الله عليه وسلم  فهو في سورة الإسراء، هنا:
﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ﴾

وهي من السور المكيّة أيضًا، وأما وقت نزولها فقد أخذته مما ذهب به الإمام بن عاشور في تفسيره لها:
"وفي هذا التلقين إشارة إلهية إلى أن الله تعالى مُخرجه من مكة إلى مهاجَر، والظاهر أن هذه الآية نزلت قُبيل العقبة الأولى التي كانت مقدمة للهجرة إلى المدينة"

وأما الأمر الذي على جانب عظيم من الأهمية، فهو طلب السلطان النصير!، أي الزعامة، أي التحوّل التام من الوعظ والنصح والإرشاد إلى الزعامة الدينية، فالأمر لن يصبح مجرد دور الواعظ الذي يقول: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم"، بل سيتحوّل هذا الواعظ إلى ذلك السلطان الذي سيدين العرب والعجم لنفوذه الدينوي والدنيوي، إلى الاثنين معًا!

لماذا؟، لأن أمر الهجرة دون إعطاءه السلطان كانت ستعني الدائرة المفرغة مرة ثانية!، فدور النبي الأوّل أو "حرفة الأنبياء" كما وصفها الإمام الرازي: هي الجدال والإلحاح في إبلاغ الدعوة حتّى يملّ منه قومه وينذرونه بالقتل رغم سلميته وعدم رفعه السلاح عليهم قط!

ولكن النبي أراد العافية في هذا الأمر!، فكانت الهجرة كما أراد، وكان معها أيضًا الأمر الجديد الذي أراده له الله: قوة السلطان!

وأشار إلى بعض هذا "قتادة" التابعيّ وعالِم أهل البصرة، في تفسيره لهذه الآية، حيث قال:
أخرجه الله من مكة إلى المدينة مخرج صدق ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله وحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة كتاب الله، وأن السلطان عزة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، وأكل شديدهم ضعيفهم

وإن كنت لا أدري لماذا قال قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سأل السلطان!، فظاهر الآيات لا يدلّ على هذا إطلاقًا، فالتلقين بـ: ﴿قُل﴾، هو أمر إرشادي، فهذه الآية ليس مجرد أمر بالخروج والهجرة ، بل هي إرشاد كامل إلى تحقيق هذه الغاية نفسها، فها هو "مخرج صدق" و"مدخل صدق" و"السلطان النصير"!، وكلهم يسندون أمر طلب الهجرة التي طلبه النبي من قبل بذكر العافية!، أي، نعم!، لقد استجبتْ لدعائك، ولكن أولاً افعل كذا وثم كذا ثم هاجر!

أي أن الله استجاب لدعائه، وسمح له في السير في الطريق التي سلكها صاحب الحوت يونس بن متّى، أي: الهجرة عن قومه، ولكن هذه المرة كانت بمباركة إلهية منذ البداية، وبإذن ارتضاه الله، فكلاهما غضب من عدم استجابة قومه، وكلاهما روادته فكرة الهجرة ابتداءًا دون أن يوحي بها الله، وأحدهما كتمها في قلبه وكنّى بها، والثاني أخرجها مباشرة إلى مجال التنفيذ دون إذن وظنّ أن الله لن يضيّق عليه في أمر العقوبة جراء ذلك

لذلك أحسبه صلى الله عليه وسلم  وهو في المدينة، تذكّر هذه المقارنة، أو سمع ذكر سيدنا يونس عرضًا، فقال لمَن حوله:
لا تفضلوني على يونس بن متّى

أي: "كلانا كان سائرًا في طريق واحد، ولكنه أخطأ ولم يستأذن ربه، وأنا استأذنت!"، فهذا أمر يستحق عليه النبيّ أن يفضّل على سيدنا يونس من أجله، ولكن القاعدة الأساسية أن الأنبياء سواسية، وما كان خاتم الأنبياء إلا بمثابة قالب صغير من الطوب (لبنة) تُرك مكانه خاليًا في بناء حسن كاد أن يكون تامًا من كل نواحيه لولا موضع هذا القالب الخالي فيه، كما في الحديث:

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله فجعل الناس يطيفون به يقولون ما رأينا بنيانا أحسن من هذا إلا هذه اللبنة فكنت أنا تلك اللبنة


نعود ..!، هل كان سيتمّ أمر الإسلام لو لم يهاجر النبي إلى المدينة ويتخذها مركزًا للإنطلاق وتكوين الجيوش الفاتحة وموضعًا لتوطيد ذلك السلطان النصير؟!

الإجابة: نعم!، نعم!، وألف نعم!، كان سينتشر هذ الدين شرقًا ومغربًا وإن كذّب به القوم كلهم في زمن الرسالة في مكة، ولكن لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم فضّل العافية على البلاء الذي كان واقعًا فيه من ضعف قوته، وقلة حيلته، وهوانه على الناس، أي بعد أن شكا صلى الله عليه وسلم حاله طلبَ أن يعفيه ربه، ثم عاذ به من غضبه وسخطه إن لم يتحقق رجاءه في هذا الدعاء

فكانت الاستجابة، وكانت العافية، وكانت الهجرة، وكان السلطان، وأُذِنَ له، وأُريَتْ له بقعة هجرته التي سيقوى بها أمره، وكانت المدينة، ويسّر تعالى الأحداث له فجعل أهل المدينة يفدون عليه في مكة ويلاقونه ويرجعون إلى قومهم فينتشر الإسلام سهلاً ميسّرًا في المدينة، مع أن يثرب وقتها كانت أرض سبخة، أي لا تصلح لزراعة شيء، ولم تكن لها قوة اقتصادية وكانت خارجة عن طريق التجارة وقتذاك، فبعد أن علم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اختارها له، سمّاها باسم هو عكس صفتها، سمّاها: طيْبَة!، وسمّاها طابة، فكانت كذلك!، وسمّاها المدينة وكره أن يطلق عليها اسمها القديم: "يثرب"، لأن "يثرب" من "الثرب" و"الثرب" هو الفساد، وها هو د.حسين مؤنس في كتابه "عالم الإسلام" ينظر بعين المؤرخ إلى يثرب قبل الهجرة، فرأى فيها أربع قوى تمثل عناصر سكانها حينذاك، الأوس والخزرج وقضاعة ويهود، وتنازع السيادة منهم الأوس والخزرج، وكانا يتعايشان كقبيلتيْن متجاورتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى، ورأى النزاع يشبّ بينهما وتكثر الحروب والوقائع ولأسباب عدة لتنازع مناطق السيادة في الداخل مرّة، وللسيطرة على مصادر المياه والواحات الواقعة خارج منازل القبائل مرّة ثانية؛ وحوّل نظره فرأى طريق التجارة يمرّ من حواليها ولا يكاد يصيب يثرب من ذلك شيء، لأن الطبيعة حاصرتها بمرتفعات وعرة وطرق غير ممهدة ورمال سائلة تغوص فيها الركبان ولا يسهل على القوافل قطعها، وطباع أهلها المتنافرة سدّت طرق التواصل الأخرى مع قوافل التجارة، بينما مكّة في ذات الوقت كانت بفضل حسن استغلالها لطريق التجارة من أزهر مدن الدنيا وأغناها خلال القرن السادس الميلادي، وهو القرن الذي سبق مجيء الإسلام


ثم أطبق عينيه، وفتحهما على يثرب بعدما كرّت كرّة للزمان عليها، فرأى اختفاء الصراع بين عناصر السكّان وظهرت يثرب تحت عينيه كبلد واحد متصل الأجزاء عامر بالبيوت والشوارع والحارات، ولاحظ كثرة إنشاء الناس للحدائق والبساتين (الحوائط)، ورأى د. حسين مؤنس – عجبًا – تجارةَ مكّة وقد تدهورت نتيجة سيطرة يثرب على طريق التجارة، ورأى طرق التجارة الجديدة تتمهد في اتجاه الغرب مارّة بوادي العقيق، وفي الاتجاه الجنوبي الغربي مارّة غربي جبل عير، ورأى الجسور وقد أنشات على وديان المدينة تيسيرًا للمواصلات، ثم عاد إلى يثرب فرآها وقد كثرت أسواقها وشوارعها التجارية، وصيرورة كثير من أهلها إلى العمل في التجارة، ورأى سكّانها يزيدون زيادة كبيرة مستمرة، وأسعار الأراضي والمباني وحاجات الحياة ترتفع في المدينة شيئًا فشيئًا

أي أن المدينة لم تكن بتلك القوة الاقتصادية ولا المكان المناسب لكي يقول القائلون أن النبي صلى الله عليه وسلم اختارها دارًا لهجرته لهذه الأسباب!، كلاّ، ولكنّ الله هو من اختارها، وهو مَن أصلح لها أمورها وهيّأها للقيام بدورها الجديد، فهذا فضل الله وحده وتيسيره للأمور للوصول بها إلى غاية يُراد لها أن تتم!، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في مكة خائفًا على حياته، فالأمر لم يكن بهذا السوء حقًا كما تصوّره أسباب الهجرة المعتادة، فأن وفاة عمّه لم تعدمه نصيرًا، فرغم الوفاة لم يكن وحيدًا كلقمة هانئة في فم الآثم، وإلا فلِمَ احتاطت قريش كل تلك الحيطة وهي تخطط خطة اغتياله، وقالت لنأخذ من كل قبيلة رجلاً ولنضربه بالسيف ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل!، هل هذا تصرّف شجعان صناديد أمام فرد يتيم ضعيف مات قبل قليل عمه الذي كان ناصره؟، إذن رغم وفاة هذا الناصر القوي الجانب إلا أن قريش كانت لا تزال تهابه، ومحاولة الاغتيال كانت محاولة كغيرها، لم تكن هي القشة التي قسمت ظهر البعير، ما دامت دُبّرتْ بليْل!، ومن يدبّر بالليل على فعل الإثم يفتقر إلى الشجاعة ليقوم بذلك في النهار علانية أمام الناس وبدون لثام أو محايلة تؤدي إلى تفريق الدم بين القبائل!، كان عليه الصلاة والسلام آمنًا في مكّة حتى اللحظات الأخيرة، فالله وعده في الآيات المكيّة بأنهم لن يكيدوه وقال له مطمئنًا: إِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا!

إلا إذا حدث له عليه الصلاة والسلام مثلما حدث مع سيدنا لوط من قبل!، فهذه الآيات التالية التي تحكي قصة سيدنا لوط عليه الصلاة والسلام حينما شعر بالخذلان وهو يرى قومه يهرعون إليه وقد أعمت الشهوة عيونهم وهم يريدون سوءًا وفاحشة بضيوفه، فحاول أن يصرفهم عن مرادهم وساومهم على ذلك بكل سبيل ممكن، فرفضوا وأصروّا على ما فعل ما يريدونه من الإثم بضيوفه، فعند ذلك قال سيدنا لوط:
﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ - قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ..

وهذه سورة وآيات مكيّة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها بعد ذلك بسنوات بعدما هاجر، وفي سنواته الأخيرة في المدينة، لأن أبا هريرة - وأبو هريرة أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أعوام لا غير - روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ

بلى لقد كان يأوي إلى ركن شديد، وهو ركن الله تعالى، وهو ذات الركن الذي كان يأوي إليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال له الله تعالى:  
﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا


حتى انظروا لعبرة الدهر!، إلى فتح مكّة نفسها، ففتح مكة كان أسهل الفتوحات التي قام بها النبي عليه الصلاة والسلام، فقد دخلها سلمًا – إلا ما كان من سبق خالد بن الوليد - ثم دخل مكة واستسلم الناس له تمامًا وكالسحر!، وآمنوا به!، فكان إذن فتحًا يسيرًا، مثل فرقعة الأصبع، مكّة ذلك المكان الذي عانى فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ما عانى، ولاقاه قومه بالعذاب، وخرج منها فرارًا بالمؤمنين من أذاهم (كما تقول كتب السيرة)، مكّة!، تُفتح بتلك الطريقة السهلة التي لا تكاد تُصدق بسبب سهولتها!، سيُقال: لأنها أُفرغت من صناديدها وشجعانها من قبلُ في بدر وأُحد!، ولكن، لا!، ليس هذا بصحيح، لأن من أسلموا من يوم الفتح كان عددًا كبيرًا، ومنهم الفرسان والقادة والدهاة: عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وصفوان بن أمية

إذن أتُفتح مكّة هكذا، لولا لم تكن هناك أصابع الله!، فها هو أثر الله في افتتاح مكة بتلك السهولة البالغة، في شيء لا أراه سوى أنه عبرة لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم عندما ظنَّ يومًا ما إنه سيكون بينهم كما قال في دعائه يوم الطائف: إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟،  ثم فضّل العافية من هذا المصير القاسي، فها هو والله يمكّنه من فتحها بمجرد مسيره إليها، كالسكين وهي غائصةٌ في قالب الزبدة!

وهل كان سيحقق نفس النتيجة لو صبر لحكم ربه؟
نعم!، وبالتأكيد!، فالغاية كانت واحدة، وأن الله وعد رسله بالنصر، فسواء صبر صلى الله عليه وسلم على مجاورة قومه أو لا، فقد كانوا سيدخلون في دين الله أفواجًا، وبقدرة الله وحده، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم إلا نذير!

فالله غالب على أمره، ومتم نوره ولو كره الكافرون!، وأن يومًا عند ربك كألف سنة مما يعدون!، ماذا تفعل الثلاث عشرة سنة بجوار هذه الألف سنة!، لا شيء!، ولكن الرسول سأل العافية، فكانت الهجرة والدولة الإسلامية والزعامة والسلطان وكثرة إسلام الناس وتكوين الجيوش والغزوات والظفر والغنائم والأسلاب وبيت المال الفائض، أي بكلمة أخرى: كان على عافية واسعة من ربّه، كأثر من استجابه ربه لدعوته التي دعا بها يوم الطائف بينما كان الدم يشخب من قدميه على الحجارة وقلوب بني ثقيف من حوله أقسى من الحجر!

فالرب يعمل بوسائل غامضة لنا، حتّى لقد كان لفتح مكة -كما قيل: "أثر عميق فى نفوس العرب فشرح الله صدر كثير منهم للإسلام، وأقبلوا على الإسلام إقبالا لم يعرف قبل ذلك وصاروا يدخلون فى دين الله أفواجا"

مثلما كان من أمر يونس بن متّى عليه السلام، فها هو وقد خرج مغاضبًا من قومه، وقد يئس منهم، ثم ماذا؟!، أراد الله كذلك أن يريه عبرة الأيام والقدر، فجعلهم يسلمون عن آخرهم وفي سهولة فائقة!، كل هذا ويونس عليه السلام بعيدًا عنهم وآبقًا من الله، وعندما عاد بعد أن تاب الله عليه فوجيء بهذه البشرى السارّة فقد غادرهم كفّارًا، وعاد وهم: "مِائَة أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ"من المؤمنين، فلم يكن عليه – ككل الأنبياء – إلا البلاغ والصبر!

وفي حجة الوداع قدمَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة للحج، في مائة ألف من المسلمين (أو يزيدون) وهو يتقدمهم، في مظهر فيه ما فيه من جلالة النبوة ومكانة الواعظ ومهابة صاحب السلطان، فيعلّمهم مناسكهم، ثم وهو على جبل الرحمة في عرفات يبشّره جبريل عن الله بإكمال أمر هذا الدين، فيوصّيهم صلى الله عليه وسلم وصية أخيرة جامعة، وينهيها قائلاً لهم:  
ألا هل بلّغت؟!

فتصايح الناس من كل مكان من عرفات: أي نعم!، بلّغتَ، وأدّيتَ، ونصحتَ

فأشار ثلاثًا بأصبعه السبابة مرّةً نحو السماء ومرّةً نحوهم، وهو يقول في كل مرّة:
اللهم فاشهد!




20 نوفمبر 2016