كتبت الروائية الحائزة على جائزة نوبل «بيرل باك» رواية عن فتاة صينية تزوجت تبعًا للتقاليد من ابن صديق لوالدها درس وتعلّم لسنوات علوم الطب في بلاد الغرب، وعندما عاد تزوج تلك الفتاة التي كانت تؤمن منذ الصغر بأن علامة جمال المرأة تكمن في صغر ودقة مقاس القدم، فهذا ما تعلمته من الأعراف الصينية التي أخذتها من فم والدتها، التي كانت تشرف وهي طفلة على نقع قدميها في الماء الحار وشدهما بالأربطة، ويزداد الشد يومًا عن يوم، فإذا ما اشتكت الطفلة وبكت في جزع، ذكرتها والدتها بأن زوجها في يوم من الأيام سيطري جمالهما، فتتحمل الطفلة من أجل ذلك هذه الآلام في صمت؛ ولكن الذي حدث أن الزوج العائد من بلاد الغرب، طلب منها ذات يوم بعد زواجهما أن تحرر قدميها، لأن ذلك الرباط الضاغط حسب ما تعلمه في بلاد الغرب غير صحي للجسم والعظام، وأنه يرغب في أن تفك الأربطة لأنهما غير جميلتين! .. فكان من الطبيعي أن تتألم الفتاة أكثر لأن جميع ما بذلته من اهتمام فائق منذ صغرها في شيء كانت تظنه يحمل كل معاني الجمال أصبح الآن في لحظة واحدة بلا قيمة.
ومعنى هذا أن الإنسان في أحيانًا كثيرة يبذل طوال حياته مجهود دائم ومستمر من أجل أن ينال شيئًا جعلته تقاليد وأعراف المجتمع غاية الأمر من الحياة، ويتمثل هذا في دراسته والتحاقه بكليات القمة والعمل بكد من أجل توفير الحياة اللائقة له، وقد ينفق الإنسان العمر بأكمله في هذا الطريق المرسوم له من قبل المجتمع، ولكنه ينسى شيئًا هامًا خلال هذه الرحلة .. وهي تنمية الصلة والأسباب التي بينه وبين ربه.
ويغفل الكثيرون عن هذا، لأنهم يعتبرون أن غاية الأمر من ناحية الدين هي المواظبة على الصلاة وقراءة القرآن وصيام رمضان، وهذا حَسَنٌ، ولكنه لا يكفي، فالإنسان وخاصة في مرحلة الشباب يمر كثيرًا بمرحلة الفراغ النفسي، ويكون في هذه المرحلة عرضة لكثير من الفتن ومنها الفتن الدينية، فقد ينجرف بدون وعي إلى إحدى الجماعات الدينية المتطرفة فتسئ لمفاهيم الدين التي لم تنضج بعد لديه، فيعتنقها طوال حياته ويدافع عن تطرفها بقوة رغم أخطائها الواضحة.
وفي مرحلة الشباب أيضًا يظن الإنسان أنه يفهم الكثير من كل شيء، ويظن أن كتاب الله الذي يقرأه لا يحتاج لتلك الكتب الضخمة في تفسيره فالآيات في مجملها واضحة أمامه ويدرك القصد منها تمامًا، ولكن الأمر ليس كذلك!، فيقع في أخطاء ما كان سيقع فيها لو بحث وقرأ واستفاد وعرف قيمة العلم ومتعة اكتشاف المعلومات الجديدة التي تتصل بدينه.
ويوجد صنف آخر من الناس لديه قناعة عالية بأن هذا الدين بوضعه الحالي قديم!، ويحتاج للتجديد وذلك بأن يكون أكثر عصرية!، ولنا أن نعذرهم في هذا التفكير، فهم يرون أن أكثر رجال الدين يتحدثون عن أمور لا تفيدهم في واقع حياتهم، وأن الكتب التي على الأرصفة إما كتب تراثية صفراء في طبعات جديدة نالت شهرتها قديما وحديثًا لأنها كانت متماشية مع ذوق وفكر عصرها الحالي، وإما كتب كتبها معاصرون ولكن بنفس فكر الكتب التراثية القديمة وبنفس الأفكار وإن جاءت في ثوب جميل من الألفاظ.
ولذلك فهؤلاء الصنف من الناس يملك إجابة دائمة لكل المعاملات والمسائل المعاصرة، وهي أن الدين ليس عصريًا ولا مجديًا إلا في فقه العبادات، والتي هي الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج، وباقي أبواب الفقه تحتاج لإعادة النظر بروح عصرية لهذه المعاملات المستحدثة في حياتهم، وإنه ما دام قد ارتضاها أكثر المجتمع فهي لا بأس بها.
ومن ذلك أن نظرة العديد من الناس لم تتغير تجاه معاملات البنوك والفائدة، رغم أن الربا ربا، وتجاه التعدي على الحقوق الفكرية للمؤلفين وتداول الأفلام والشرائط والكتب المنوعة على شبكة الإنترنت بين الأصدقاء والمعارف، رغم أن السرقة سرقة، وبين ضياع حقوق الجار واستحلال أشياء كان يراها أهل العصور الإسلامية الأولى في مضمونها الأساسي من أعمال الفاسقين من الناس ومثل هذا كثير!
وهناك على الجانب الآخر العديد من المتبحرين في الدين الذين يرون أن السلامة في اعتزال الناس، وعذرهم في هذا أن المجتمع فاسد، فهو لا يسير على النمط المثالي للإسلام في العصور الأولى له، وأنه لا فائدة ولا قدره لهم على محاولة الإصلاح، لذا فالأفضل أن ينصرفوا إلى شئونهم الخاصة مع إظهار الاشمئزاز على ما يرونه من الفساد!
وهم على خطأ، لأن ذنوب المجتمع، أي مجتمع، عندما تكبر وتتضخم فهي تلتهم الجميع، ولا تفرق بين صالح وطالح، وبين مرتاد الأندية الليلية وبين مرتاد المساجد، وقديما قال الخليفة عمر بن عبد العزيز «كان يُقال: إن الله تبارك وتعالى لا يعذّب العامة بعمل الخاصة، ولكن إذا عُمِلَ المنكرُ جهارًا .. استحقوا العقوبة كلهم»
ويعتقدون أيضًا أن الواقع أسوأ وأنه لا أمل في المستقبل وأن هذا زمان الفتنة، ولكن لماذا؟!، فمادمت قادرًا على التكلم والتصرف فهناك متسع للمحاولة وفرصة للتغيّر، وفي ذلك يقول الدكتور يحيى هاشم فرغل «أن النظام الإسلامي لم يصل قط إلى مرتبة التطبيق الشامل، وأن ذلك لا يحسب على الإسلام ضد صلاحيته .. ولكنه يحسب له باعتباره هدفًا خالدًا لهذا التطبيق، وأن سر بقاء الإسلام يكمن في أنه يستعصى على التطبيق الكامل .. ليظل مثلا أعلى تسعى البشرية إلى الاقتراب منه.»
وهو على حق فهناك دائمًا الكثير من الأنوار لمَن يرغب في الرؤية، وكثيرا من الظلال لمن لا يرغب!