Sunday, February 5, 2017

أكل فصيح قال شعرًا: مُتَيَّمُ؟!




رغم وفاة "المأمون أبو شوشة" عن سبعة وثلاثين عامًا في بداية ستينيات القرن الماضي، إلا أن هناك الكثير ممن يتذكره، ولكن ليس لشعره، وهذا ديوانه الأول، والأخير، وطُبع بعد وفاته، مع مقدمة كتبها أحد نقّاد الأدب، وختمها بهذه الكلمة: أنه "ما كاد يغنّي حتّى أُسكت"، ولكنهم يتذكرونه لشخصيته، فهو كان يقدّم في الإذاعة برامج ساخرة منها: ساعة لقلبك، وصواريخ، إلى جانب موهبته في تقليد أصوات المشاهير وقول الأزجال الساخرة، والتي بهذه المناسبة لم يضمّها ديوانه هذا

وديوانه الأول هذا كنت أودّ أن أرى شخصيته فيه، فلم أرها سوى في قصيديتين، أولهما قصيدة "الشعب ثار"، وخاطب فيها بسخرية "ركيكة" الملك السابق، وبدأها قائلاً:

مولاي يا أغلى ملك
يامالك الدنيا بما وسعتْ، وأعدل مَن ملكْ
يا أحكم الحكماء رغم الأغبياء
يا أعلم العلماء رغم الأدعياء
ماذا يقول الأغبياء الأدعياء
الشعب ثار
في وجه مولاه الدولار
لا لا محال
محض افتراء ما يقال
الشعب شعبك كله ملك اليمين بضيعتك
أوَ لست صاح تاجه والصولجان
أوَ لست مولاه العظيم الشاه قدّيس الكيان
وحليف سادته العظام الطيبين الأمريكان
لا تكثرث واحكم فحكمك ما تراه
سيّان ثار الشعب في وجه الدولار أو الطغاة

..
إلى آخرها، ورغم ركاكتها الظاهرة إلا أن إطارها الساخر يعكس كالمرآة شخصية محدثها وهذا خيرٌ من ألف قصيدة عصماء لا نرى خلالها وجه قائلها

وأما الثانية، فهي قصيدة "أغدًا أموت؟!"، ولأنه مات شابًا فقد أُثرت عنه:

أغدًا أموت؟
وتموتُ في قلبي الحياةْ
وتذوبُ كلُّ عواطفي بين الترابْ
وتروحُ كل خواطري ورؤى الشبابْ
وأعودُ شيئًا لا يُحِسُّ ولا يُحَسُّ ولا تراه
..
أغدًا أموت
وتموتُ هذي الأغنياتْ
وتموتُ أحلامي الطموحة والرؤى والأمنياتْ
..

وغير ذلك فكنت أودّ لو سمح لشخصيته المرحة بالظهور عبر قصائده، لا عن طريق تقديم البرامج الساخرة بالإذاعة، ولا بالأزجال الفكهة، فليس الشعر حكرًا على الكلام الرصين أو العاطفة المعذّبة أو الدمع والأنين!، فقصائد الحب التي تملأ صفحات هذا الديوان رأيتها مرارًا من قبل في التجارب الأولى للشعراء، وهي بكل يقين لا تتكأ على تجربة، أو تتكأ في أفضل الأحوال: على تجربة ضحلة، ولا أدري هل هذا ما قصده كاتب المقدّمة أو لا؟، عندما بدأ مقدمته قائلاً:

إنّ أول شيء يقابلنا هو أن العالم الذي كان يكتب عنه الشاعر عالم غير حقيقي، فهو عالم خيالي مملوء بالضباب والوهم واليأس، وهو عالم عليل يقف على نهايته باب ضخم يفضي إلى الموت مباشرة
فالحبّ الذي يعدّ القوت الضروري للشعراء، والذي ظلّ شعلة موروثة يتسلّمها الشعراء جيلاً بعد جيل .. [إلخ إلخ إلخ] .. هذا الحب نراه عند "المأمون أبو شوشة" – برغم شبابه – شاحبًا وحزينًا يكاد يتساقط من الإعياء والشك وعدم الثقة فيه ..

ولا أحب أمثال هذا النقد على أي حال وقرأته بعد قراءة الديوان كأداء واجب، ولكن من القصائد التي تجزم بعدم وجود هذه التجربة من أساسها، قصيدة "أغار عليكِ منكِ"، وقدّمها بمقدمة نثرية صغيرة تقول كلماتها:

قالت: تغار عليّ؟، قلتُ: منكِ!، قالت: تحبّني؟، قلت: أحبّكِ أكثر من الروح!

 ثم تبدأ الغيرة:

أغار عليكِ يا خفق النسيم وبسمة الوردِ
أغار عليكِ منكِ لإنني أهواكِ لي وحدي
.
أغار عليكِ من مرآتكِ الحمقاء يا سمرا
ستكشف عن مفاتنك الحسان وترفع السترا
.
أنا: انتظر!، لحظة!، لماذا تغار عليها من مرآتها، ماذا قد تفعل بها؟

هو:
.. ترينَ بها جمالكَ صورةً دفّاقةَ الحسنِ
وتجلو سرَّ ما بين الشفاه الحمر والعينِ

أنا: آها، فهمت!، آسف!، أكمل ..!

هو: 
أغار عليكِ من عينيك من تيّارها الغامر
وأخشى أن ترى سحرَ الهوى في حسنكِ الغامرْ

أنا: لحظة!، آسف مرة ثانية!، لماذا حقًا تغار عليها من عينيها هي، وماذا حتى لو رأت عيناها جمالها، فهما لها، وليستا لغريب مثلا؟!

هو:
.. فتهوينَ الذي أهواه فيكِ، وأنتِ إغراءُ
وكلُّ مُناي أن أهواكِ وحديِ، أنتِ حسناءُ

أنا: آها فهمت!،آسف!، وأعذرني لبطء فهمي، إذن، عيناها المركّبة في أمّ رأسها إن رأتا جمالها عند مطالعتها لنفسها في المرآة ستعشق صاحبة الوجه، ولأنها هي نفسها عينا صاحبة الوجه، فهذا سيؤدي أنها ستُغري نفسها بنفسها ومن ثمَّ ستعشق نفسها، وهذا خطر عليك فأنت لا تريد شريكًا في حبك حتّى لو كانت هي نفسها، أليس كذلك؟

هو:
أغار من الوجود عليكِ يا لي من حماقاتي
وحتّى أنتِ يقلقني زحامكِ في صباباتي
.
أخاف عليكِ حبكِ نفسَكِ، النفسُ التي أحببت
وحبّي أحمقٌ يأبَى شريكًا فيه .. حتَى أنت
.

أنا: نعم!، نعم!، هذا ما كنت أقوله!

.
.


ومن  أسف فأن قصائد الديوان غير مؤرخة، وكنت أحسبني سأستغرق وقتًا في قراءتهن لكثرتهن، إلا إنه مرّ سريعًا، فلم يكن فيه الكثير مما يلفت النظر، غير قصيدة (بل: أغنية) "لو"، فهي جميلة للغاية وتخيّلتها مغنّاة في يسر وعذوبة، وتلك الأبيات الأخرى لفتت نظري وحدها كثيرًا، من قصيدة "المجنون والغانية":

يا أيها الزمنُ العجوزُ، وقد عشقتَ قتاليهْ
أنا ندّكَ العاتي، وصخرتُكَ الكئودُ العاتيةْ
حطّمتُ أقدارَ الوجودِ ..
وحطّمتني غانيةْ!

..

وددت وحسب لو لم يتكلّف صاحب الديوان القول، ولعلّها كانت قصائد البدايات، ولعلّه كان سيستبعدها من ديوانه الأول إذا نشره بنفسه، مَن يدري؟، فشوقي نفسه عندما كان يزمع في أخريات حياته في إخراج طبعة ثانية من ديوانه كلّف أحدهم بالبحث عن قصائده القديمة المنشورة في الجرائد القديمة، ووُجد الكثير منها، ولكنه كان يمزّق أكثرها في بساطة ورفض أن تنشر في ديوانه، إيه!، ربما ظهر "المأمون أبو شوشة" بعد وفاته لجامع ديوانه ليعتب عليه صنيعه، وربما سأله كذلك عن أزجاله أين هي، لمَ لم يثبتها مع أنها كانت أجمل ما عبّر عنه!

Wednesday, January 25, 2017

عهدي: مذكرات خديوي مصر الأخير


مرّت مصر في "مذكرات عباس حلمي الثاني" في عهده الذي استمر من 1892-1914، بأحداث بارزة مثل حادثة دنشواي، وفاشودة، وبناء الجامعة المصرية، ومر عليها كذلك شخصيات بارزة مثل الإمام محمد عبده، ومصطفى كامل، والشيخ علي يوسف، واللورد كرومر، وكتشنر، وجورست، ومستر دنلوب، والمذكرات مكتوبة في أصلها بالفرنسية وتُرجمت إلى العربية، وإن لم أحب الترجمة كثيرًا، وودت فقط لو طالع المترجم الكتب والمذكرات ولغة الصحف خلال هذه الفترة ليتشبّع من أسلوبها وتكون الترجمة أقرب إلى لغة زمن الكتاب بدلاً من مجيئها في لغة حداثية ومسطّحة

أما عن المذكرات فهي بسيطة أكثر من اللازم!، ولا أدري هل كتابتها في الأصل بالفرنسية لها شأن في ذلك أو لا، أقصد لأن استخدام لغة أمّة في الحديث عن أحداث أمّة أخرى ربما يدفع الكاتب نحو تبسيط الأحداث، ولو لا إراديًا، لأنه قلمه سيخبره على الدوام أنه يكتب لأبناء لغة ثانية لا يدركون عمق الكثير من الأحداث التي يرويها، أو ربما كان ذلك ببساطة لأنه كان يقصّر حديثه حول السياسة العامة لمصر في عهده، ليبيّن مدى تدخّل المعتمد البريطاني في شئون البلاد الأمر الذي أدّى إلى عزله ونفيه إلى سويسرا، وجرى العزل بأسلوب رخيص ومباغت ومقام على حجج ساقطة والذي حدث عندما كان في زيارة إلى تركيا، وتعرضه لمحاولة اغتيال نجا منها بمعجزة رغم تخاذل جميع أفراد حراسته عن التدخّل في اللحظات الثقيلة الأولى، وقد ألزمته تلك المحاولة الفراش هناك لشهور ثلاثة جاء بعدهما أمر العزل لأنه متواطئ مع أعداء إنجلترا ومُنع بالقوة من العودة إلى مصر، وكان هذا وقت الحرب العالمية الأولى، وبالتأكيد فنّد صاحب المذكرات تهمة التواطئ بسهولة، وبات جليًا أن حادثة الاغتيال المدبّرة مرتبطة بحادث العزل، ثم افتخر بهذا العزل لأن إنجلترا أصبغت صيغة رسمية أخيرًا لاحتلالها البلاد، وأعلنت الحماية البريطانية على مصر وقطعت صلتها بالخلافة، فيقول الخديوي الأخير في مذكراته:


أشعر بفخار أن إنجلترا لم تجرؤ على إعلان حمايتها على مصر إلا بعد أن أبعدتني عن السلطة، أما شعار حكمي ذلك التراث المجيد من أسرتنا، فقد احتفظت به بدون أي تلطيخ، أو أي ضعف، وهكذا، ولكي تقوم إنجلترا بالحكم، وعن طريق سلطان مخلص لها – حتى وإنّ كان من الأسرة الخديوية – فإنها اختارت الأمير حسين [كامل]، الذي لم يكن في الواقع أكثر من ستارة، وما دامت إنجلترا قد وجدت من الضروري أن تؤكّد وبهذه الطريقة الرسمية، استيلاءها على السلطة المزدوجة: الإدارية والتنفيدية، في مصر، فإن ذلك يعني اعترافها بأنها لم تكن لها هذه السلطات أثناء حكم [والدي] توفيق أو حكمي


وأدرك أنه صاحب المذكرات، ولكن مواقفه الوطنية المعهودة ووقوفه بجانب القوى الوطنية، وتأييده لحركات إصلاح الشيخ محمد عبده، وتعاونه الوثيق للغاية مع مصطفى كامل والحزب الوطني، وغيره من الشباب الوطنّي المتحمّس لقضية البلاد وقتذاك، فكل هذا صحيح لا ينكره أحد، كما أن حديثه عن عرابي مقبول كثيرًا نظرًا لما أحدثته حركته بعد ذلك من التدخل الإنجليزي المباشر في مصر وبدأ الاحتلال وانهيار سلطة أسرة كاتب المذكرات، وكذلك دفاعه عن والده الخديوي توفيق وقراراته وسط التدخّل الإنجليزي الذي أحسن والده الظنّ به، والكلمة المعروفة التي قرأتها عن في كتب التاريخ الأخرى وصفت فعل والده "بالسذاجة" لأنه وثق ثقة عمياء في كلمات إنجلترا بعدم التدخل وأن هذا وضع مؤقت للغاية لا يوشك أن تعود بعده لمصر سيطرتها على إدراتها، ونسى الخديوي توفيق أو تناسى أن لإنجلترا مصالح جمّة في مصر لأنها تربط أجزاء أمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس ولأنها وسط طريق مواصلاتها في مستعمراتها في الهند، بينما كان ابنه في مذكراته يسمّي فعله وحسب بكلمة "حسن نية"، وكان هذا في الحالتين خطأ والده الأكبر، دون أن ينسف ذلك من إصلاحاته الأخرى، فكان دفاع الابن عن والده مقبولاً أيضًا ومن اليسير تفهّمه .. أقصد هل توقّع أحد العكس؟!


وكذا فأن كاتب هذه المذكرات كان يعترف بأخطائه الأولى في شجاعة، ويندم عندما يتذكّرها، ويعزوها كلها إلى قلة خبرة الشباب، فقد وُليَ العرش وهو في التاسعة عشرة، بينما كان اللورد كرومر في أوجّ سطوته وتدخّله في كافة شئون مصر


تمنيت فقط أن يكون الحديث متشعبًا أكثر، أتتذكرون مذكرات جويدان هانم؟، إنها زوجته النمساوية، ولم يأت ذكرها ولو عرضًا خلال هذه المذكرات!، وكذا علاقته الخديوي الوثيقة بأحمد شوقي، وعمل الأخير معه وقربه منه إلى أن نُفِيَ شوقي بدوره إلى إسبانيا بعد عزل الخديوي حيث عُدَّ من رجال العهد الذاهب، ومع هذا فلم يأت على ذكره إلا في سطرين فقط تذكّره فيهما وقال عنه إنه: "ذلك الرجل العبقري الذي عرفته وأحببته والذي حقق للغة العربية والفكر الوطني نهضة كبيرة".


إنها خيبة أمل، ولكن وجود هذه المذكرات أفضل من عدمها

Saturday, January 21, 2017

التاريخ لا يموت





أحببت المؤلِّف "د. يونان لبيب رزق"، ومؤلَّفه "الأحزاب السياسية في مصر 1907-1984"، ود. يونان مِن الأشخاص الذين تودّ لو امتدَّ بهم العمر قليلاً ليؤرخ لما يحدث بيننا الآن ويعقّب بآرائه ويكرر بصوته الواعي وهو يربط بين أحداث الحاضر بالماضي مقولته: "التاريخ لا يموت"، أو يقدّم تعريفه لمعنى "الثورة"، ففي بساطة وفتنة آسرة يقول د.يونان:
الثورات تقوم نتيجة عجز النظام السياسي عن استيعاب المتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية التي تصنعها حركة التاريخ، وترجمتها إلى مشاركة في السلطة وتغيّرات في القانون وإعادة لبناء المؤسسات الدستورية على نحو يستجيب مع تلك المتغيّرات.
وتوصيف عمل أو مجموعة أعمال بالثورة يكون صحيحًا بقدر ما تحقق من إنجاز في حل التناقض بين السلطة وبين مجموعة المتغيّرات التاريخية، وليس مجرد الانقضاض على رجال هذه السلطة أو جناح منهم وإبعادهم عن مواقعهم
وبهذا التعريف المحدد، والمبسط في نفس الوقت، يمكن توصيف ما صنعه عبد الناصر خلال أغلب سني حكمه، بالثورة، وإن كان يعيبها أنها كانت "ثورة بلا ثوار"، فقد اعتمد النظام على التغيّر "بالقرارات الجمهورية"، لا التغيّر من من خلال القوى الاجتماعية المستفيدة بالتغيير.


ومات د. يونان في يناير 2008، ولو امتدّ به العمر أحسبه كان سيقول أن ثورة يناير 2011، كانت "ثوار بلا ثورة"، وإن كان قيامها حتميًا، وضرورة تاريخية أوجبتها معطيات التاريخ الاقتصادية والاجتماعية، ثم قامت ولم يقم التغيّر، لا من من خلال القرارات الجمهورية ولا من خلال القوى الاجتماعية المستفيدة .. أو لم تُؤتي أُكُلَها بعدُ، فالتاريخ لا يموت

Friday, January 20, 2017

الشعر فن جميل


في ديوان حافظ إبراهيم، بيتان، كُتب عندهما:
"قال هذين البيتين مرتجلاً عندما تولّى (نجيب الهلالي بك) وكالة المعارف للتعليم الفني والفنون الجميلة، سنة 1929"
وهذان البيتان:
أضحى (نجيبٌ) وكيلاً        لنا، ونَعْمَ الوكيلُ 
 فَلْيَنْعَمِ الشِّعْرُ بالاً       فالشِّعْرُ فَنٌّ جَمِيلُ

وحافظ كان آنذاك يعمل في دار الكتب المصرية، وهي تابعة لوزارة المعارف بصفة عامة، وإن كان قسم التعليم الفنّي  الذي عُيّن الهلالي وكيلاً عليه بعيدًا كل البعد عن المنصب الذي يشغله حافظ إبراهيم كرئيس للقسم الأدبي بدار الكتب، وبعيدًا كل البعد كذلك عن كل ما يتصل بالأدب والشعر في شئون الوزارة، فقسم التعليم الفني والفنون الجميلة كان يشرف على"مدرسة الفنون الجميلة" التي أُنشئت عام 1908 في مصر، والتي كانت لا تخرج عن التخصصات الأربعة: النحت والتصوير والزخرفة والعمارة، أي أن وكالة الهلالي للتعليم الفني والفنون الجميلة قاصرة على إشراف الوزارة في هذه التخصصات الفنيّة وحسب ولا تتعداها، ولكن لتقدير حافظ لشخصية نجيب الهلالي وما عُرف عنه من نزاهة ووطنية صادقة جعلته يقول هذين البيتين، ويرى أنه ما دام الشعر فنًا جميلاً، فأن نجيب الهلالي بوكالته على الفنون الجميلة قد أضحى وكيلاً على الشعر أيضًا

ولا أدري هل كان يدري حافظ أن هذا التعريف الواسع للفنون الجميلة كان يُعمل به في الغرب، أم قال ذلك دون اتفاق، فعندما ترجم الدكتور الطاهر أحمد مكي، كتاب المستشرق الألماني فون شاك: "شعر العرب وفنهم في إسبانيا وصقلية"، آثر أن يقسّم الكتاب إلى جزئين، الشعر، والفن، وأن يطبعهما منفصلين دون كتابة "الجزء الأول" أو "الثاني" على غلاف أيهما، ولكن مع الإشارة إلى ذلك في المقدمة، وبرّر هذا:
ذلك لأن العالِم الألماني يزاوج بين الشعر والرسم، يأخذ من الثاني للأول، ويستشهد بهذا على سابقه، لما بين الفنَّين، أو الفرعيْن من الفن إذا شئتَ، مِن وشائج وصلات، ومِن هنا فإن أحد الكتابين يكمل الآخر فكرةً وموضوعًا
ولكن صنيع د. مكي منعني أن أشعر بالدهشة الأولى وقتذاك، وجعلها تتأخّر قليلاً إلى أن طالعت كتابًا مرجعيّا (Textbook) عن الفنون، كتابًا واحدًا ضمّ بين دفتيه تاريخ ومذاهب الرسم، والنحت، والتصوير، والعمارة، والأدب، والدراما، والرقص، والموسيقى، معتبرًا إياهم جميعًا "فروعًا" من شجرة الفن،  حسب التعريف الموسوعي للفن، الذي يعرّفه بأنه "المتنفّس التعبيري للإنسان عن ثقافته"

إنها دهشة أولى أن أرى حديث الرسم والألوان والنحت والعمارة يجاور حديث الاستعارة والرمز والتشبيه والعَروض في الشعر، وهذا جعلني أدرك أكثر معنى استخدام الأدوات التي نملكها من أجل أن يُنجز العمل، وكلمة "العمل" على جفافها هي ما تُطلق على أيِّ مُنْجَز، وهيهات أن أقلل بذلك من دور الموهبة، فهي تأتي أولاً، وهي الأداة الأولى، ولولا موهبة الفنّان (بالمعنى الواسع لكلمة الفن) لما توجّه لدراسة بقيّة أدوات صنعته، فرسم اللوحة: حرفة، والنحت: حرفة، وعزف مقطوعة: حرفة، وكتابة قصيدة: حرفة، وإن بدا هذا تحقيرًا من شأن الفن، ولكن المثل يقول إنه إذا جُمع جميع الرجال العظام في التاريخ فلن يشغلوا سوى غرفة واحدة، فالدراسة إذن سيلجأ إليها أصحاب الموهبة وغيرهم، على سواء، لأنها متاحة للجميع، ولقد سار وراء دافنشي العشرات من التلامذة يقتبسون من فنّه، ولم يبرز منهم سوى أقل القليل، ولكن مَن برزَ منهم نضجت موهبته على يد أستاذه العظيم، ومن كان موهوبًا ولم يسر وراء معلِّم قدير، فقد تبقّتْ موهبته فجّةً وغير يانعة، فيها لمحات من الموهبة، نعم!، ولكن مَن سيشاهدها أو يسمعها أو يقرأها سيردّد دائمًا بينه وبين نفسه: "آه لو استكمل هذا الفنّان أدوات فنّه!"

وحتّى قبل أن يعرف العرب علم العَروض بشكل متكامل ومنهجي على يد الخليل بن أحمد، كانوا "يعلّمون" أولادهم الشعر عن طريق الدرس والتعليم، لا المحاكاة وحسب، ويُروى عن الخليل في قصة استنباطه لعلم العَروض، أنه لما وفد المدينة المنورة حاجّا في طريقه إلى مكة استرعى نظرَه شيخٌ أقبل على فتى يلقنه: "نعم لا نعم لا لا - نعم لا نعم لا لا - نعم لا نعم لا لا - نعم لا نعم لا لا"، فقال له الخليل: "ما هذا الذي تقول لفتاك؟"، فقال الشيخ: "علم يتوارثونه عن السلف يقال له: التنعيم"، فقال الخليل معقبًا إثر حكايته لتلك القصة: ".. فأحكمتُها بعدُ"، أي قد حكمَ شروط هذا العلم المتوارث من السلف، ثم وضع له أسسه والقواعد التي يقوم عليها، فكان علم العَروض، وكان الخليل بن أحمد حلقة واحدة في سلسة متصلة من أقرانه


فهو حديث خرافة وقول ضلال، ذاك الذي يقول أنّ دراسة صنعة الفنّ تقتل الموهبة وتحجّر الخيال، فهذا افتراض لا نصيب له من الصحة، وفتِّش فلن تجد فنانًا "مقطوعًا من شجرة"!، بل ستجده في أحاديثه ذا نظرات ثاقبة في الكثير من أعلام ومذاهب ومدارس فنّه، وأحسب أنه متى ما تحرّكتْ الموهبة في البدن وأعلنت على وجودها، كلما حرّكت في صاحبها الحاجة إلى إشباعها، وإشباعها ذاك لا يتأتّى إلا بالنهل من موارد روّاد هذه الموهبة السابقين والسير على آثارهم حينًا من الدهر، وهذا هو ما يُسمّى بالتعلّم، وكأنّ حركة تلك الموهبة تدفع صاحبها دفعًا يراه لا إراديًا، كي ينتظم في سلك التاريخ مع أقرانه، ففي هذا العالم البديع لم يُخلق شيءٌ وحدَه فردًا، بل: "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ"

وأسوأ الكوابيس قد تتحقق، فقد يولد المرؤ مع موهبة مضطرمة بين جوانحه، ثم يجد أن سبيل التعلّم الذي سلكه لصقلها قد أطفأها!، لأنه لا نار دون دخان، فجميع هذه الأقوال التي قيلت عن التحجّر الذي يأتي إثر التعليم تتكأ على حقائق ملاحظة وواقع معاش، ولكنها الاستثناء الذي يدعم القاعدة، وشوقي يقول في مسرحية قمبيز، بيتًا جميلاً يجسّد هذا الاستثناء:
إنَّ وَرْدَ السَّلْمِ من كثرته
        ِنسيتْ أظفارَها فيه الأسودْ
أي أن طول عهد السلام جعل الجيش الباسل يركن إلى الراحة والدعة، فسُهلت هزيمته وكسره عند المواجهة التالية، أو كما قال توفيق الحكيم:
كثير من الناس يعيشون طويلا في الماضي، والماضي منصة للقفز لا أريكة للاسترخاء
وكذا فإن كثرة الإغراق في المادة النظرية وتقليد السابقين، سيجعل المرؤ ذو الموهبة يركن إلى هذه الراحة التي وجدها وسط النظريات، ويسترخى عندها، لأنه سيكون مطئمنًا أن في جعبته الكثير من النظريات حول إنجاز العمل، وهي جميعها نظريات ناجحة، ود. محمد عناني خلال حديثه عن فن الترجمة حاول أن لا يكثر من ذكر نظريات الترجمة والإسراف في ذكر مناهجها، وكان هدفه الدائم هو التطبيق ثم التطبيق، ثم الحركة الدائبة في الترجمة، وحكى عن صديقه الذي كان لا يفتأ أن يحدّثه بآخر النظريات الجديدة في الترجمة، وأبدى د. عناني تعجّبه، لأن صديقه هذا كان من أقلّ الناس عملاً في الترجمة ذاتها، وكأنَّ الامتلاء بالنظريات المجرّدة يطغي على حركة التطبيق، فالحركة في العمل هي ما تجعلك تواجه المشكلات – ولا بد من ذلك – ثم ستهتدي – ولا شك – إلى طرق لمجابهتها أو الدوران حولها حتّى، ومن خلال هذه الحركة سيقف الفنّان في مكانه الشاغر في دورة الزمن والتاريخ، وغير ذلك فلن ينفعه طول ما حصّله من تعلّم في حياته، وربما سيجلّس متحسرًا في أخريات حياته ويقول مثلما قالَ مَن سبقه واكتشف هذا الأمر مثله بعد فوات الأوان:
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه: قيلَ وقالوا

Monday, January 16, 2017

اللاتينا ضد أفندينا




منذ النصف الأول من القرن الماضي والصراع بين الرأسمالية (النسر) والشيوعية (الدب) على أمريكا اللاتينية على أشدّه، ولاقت بينهما القارة المنسيَّة ما لاقت من التدخّل السياسي من الدب في أراضيها، ومن  من محاولات سيطرة واستغلال النسر لمواردها الغنيّة في كل ما تنتجه، البترول والفواكه والسكر والبُن والنحاس والقصدير، وكيف أن الولايات المتحدة كانت تستخدم من أجل هذه الغاية فزّاعة الشيوعية وحجّة الدفاع عن الحرية في العالم، من أجل التدخّل في سياسيات القارة اللاتينية، بينما كان السبب الحقيقي يكمن في أن الشيوعية كان ستنهي استغلال الولايات المتحدة لموارد أمريكا اللاتينية لأن الإدارة الشيوعية لموارد البلاد تختلف عن الإدارة الرأسمالية بطبيعة الحال

لذا وفي سبيل إغلاق الطريق أمام أي تأميمات شعبية للشركات الاقتصادية الكبرى في القارة اللاتينية والتي تُهيمنّ على ملكيتها الولايات المتحدة ولمصلحتها منفردة، لجأت تلك الأخيرة دومًا إلى استخدام حجة مناهضة الشيوعية ومنع انتشارها في تلك البلاد، رغم أن د. حسين مؤنس وعند إحدى استطراداته في كتابه "الإسلام في عشرين آية" ذكر أن البلاد اللاتينية في تلك الحقبة لم تترام في أحضان الشيوعية لنجاح اختراقات الدب السوفيتي أو الدعم الصيني أو لأن تعاليم ماركس ومبادئ لينين وجدتا آذانًا صاغية أو غير ذلك من الأسباب التي تشيعها الولايات المتحدة، وإنما ببساطة لأن اللاتينين عانوا الأمرّين من النظام الرأسمالي الأمريكي، حيث شركات الجار الشمالي تحقق أرباحًا طائلاً وتصدّر أكثر منتجاتها إلى وطنها الأمّ في الشمال، بينما تعطي الملاليم للعمال الوطنيين أبناء القارة اللاتينية، كأجور بخسة، وترفض باستمرار تحسين أوضاعهم أو تنمية المجتمع اللاتيني من حولها، وقصة البترول المسكيكي أحسستها ضمن قصة كاريكاتورية ساخرة، وأنا أقرأها برواية "سلفادور دي مادارياجا" مؤلف كتاب "أمريكا اللاتينية بين النسر والدب"، الذي أكتب تحت تأثيره هذه الكلمات، حيث استعرض موقف شركات البترول الأجنبية في المكسيك، من أنها كانت تخفي أرباحها الحقيقية تهربًا من دفع الضرائب للدولة، وأنها كان في استطاعتها أن تضاعف أجور عمّالها دون أن يؤثّر ذلك أدنى تأثير على مركزها المالي أو أرباحها السنوية، وأنها لا توجّه أي اهتمام للخدمات الاجتماعية في الدولة المقامة عليها، لذا فقد ..
طالب الرئيس المكسيكي "كاردنياس" هذه الشركات بإجابة مطالب العمّال المكسيكيين، فرفضت الشركات، وعُرض الأمر على لجنة تحكيم، ثم على المحكمة العليا، وكلتاهما أيّدتا مطالب العمال، ومع ذلك أصرّت الشركات الأجنبية على الرفض، فما كان من الرئيس "كاردنياس" إلا أن أذاع تصريحًا في الراديو بأن شركات البترول قد أُممّت، وقبل أن يغادر "كاردنياس" الميكرفون، كان مبعوثو الشركات يقفون أمامه ليعرضوا عليه موافقة شركاتهم على قرار لجنة التحكيم والمحكمة العلياولكن هذه الخطوة جاءت بعد فوات الأوان، فقد صدر قرار التأميم، وحقيقة أن المكسيك تعثّرت في بادئ الأمر في استثمار البترول، ولكن بعد عدة تجارب استطاعت التغلب على الأزمة وأخذ البترول المكسيكي يتدفق إلى الخارجولما أدركت الشركات الأجنبية أنه لا فائدة من محاولة إعادة الأوضاع القديمة، وبخاصة أن الرئيس "روزفلت" استقبل قرار تأميم البترول المسكيكي في هدوء، طالبت هذه الشركات بالتعويض، وقد بالغت أولاً في تقدير قيمة التعويض، إذ طالبت بمبلغ 2000 مليون دولار، ولكنها قبلت أخيرًا 115 مليون دولار فقط، دفعتها المكسيك وانتهت سيطرة الشركات الأجنبية على البترول المكسيكي

 لذا كانت جنّة الشيوعية وما تعد به من أن الخيرات للجميع، خيارًا مناسبًا للاتينيين مقارنة بجحيم رأسمالية أمريكا البغيضة التي عرفوها عيانًا

كما أن أمريكا ومن أجل مناهضة الشيوعية وعدم السماح لها بالحكم في بلدان القارة اللاتينية، كانت تؤيّد علانية الدكتاتوريين، وتدعم وصولهم إلى سدة الحكم بالمال والسلاح، ما دامت مشروعاتها الاقتصادية لا تُمسّ، وهذا كان كل ما يهمّها صراحة وكان هذا هو خطر الشيوعية الاكبر بالنسبة لها، المصالح الاقتصادية!، حتَّى يصحّ القول أنه حيثما أثارت أمريكا نزاعًا في العالم ففتِّش عن مصالح المال!، على غرار المثل الفرنسي الأشهر: "شيرشي لا فام!"

 وكان هذا الاتجاه يعتبر "الأسهل والأوفر" بالنسبة لها، لأن تقديم الرشاوي والمال والسلاح إلى الدكتاتور: "أسهل وأوفر من تبديد الأموال في إرضاء مجموعة كبيرة من السياسيين" – كما ذكر المؤلف– من السياسيين وغيرهم من رجال الأحزاب والدولة، فالدكتاتور يسيطر بقبضة حديدية على الجميع، وإن سيّطر أحدهم على صاحب هذه القبضة الحديدية فسيطرته ستمتد إلى الجميع كذلك!، وما أكبر إغراء المال ..
وقد يرفض الدكتاتور المالَ مدّعيًا النزاهة، وهو في هذه الحالة يكتفي بالحصول على تأييد من واشنطون سواء كان صادرًا من أصحاب الاستثمارات أو من وزارة الدفاع، فإذا ما حقّق الدكتاتور ذلك اتجه إلى قومه متفاخرًا مزهورًا بأنه حقّقَ "عملاً عظيمًا" في السياسة الخارجية، وهذا بدوره سيفتُّ في عضد معارضيه

 إننا أبرياء حقًا أمام دهاء السياسة!
:D

ما يهم، وأثناء حديثه عن موقف سياسي حدث في جواتيمالا والتدخّل السافر للولايات المتحدة فيه، عرض في ختام كلماته هذه النقاط الذهبية التي تُلخَّص في افتتان سياسة أمريكا العامة في القارة اللاتينية:
  • أن حكومة واشنطون ساهمت مساهمة قوية في قلب الحكومة الموالية للشيوعية في جواتيمالا
  • أن حكومة واشنطون لم تخش شيئًا من انكشاف أمر هذه السياسة
  • أنها في سبيل تحقيق هذا الهدف لم تتورع عن الاتفاق مع "انستاسيو" وهو من أشدّ الدكتاتوريين عتوًا في أمريكا اللاتينية
  • أن حكومة واشنطون بهذا العمل قد أثبتت أنها لا تعارض الشيوعية لأنها تعارض الحرية الإنسانية، بل لأنها تهدد مصالح الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية
  • أن دعوى الولايات المتحدة بخطورة الموقف بحجّة التسلل الشيوعي إلى نصف الكرة الغربي وخنق الحرية تبعًا لذلك، إنما هي دعوى لا تقوم على أساس ولا تقنع الرأي العام العالمي، وذلك لأن خنق الشيوعية للحرية مسألة افتراضية، أما خنق النظام الدكتاتوري للحرية فمسأله يؤيّدها الواقع


ومن أجل تلك السياسة الأمريكية المستبدّة والتي لا تر سوى نفسها على الساحة، وعلى الرغم من سقوط الاتحاد السوفيتي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وانفراد النسر على قمة العالم، إلا أن قواعد الاشتراكية والشيوعية والحكومات اليسارية كانت لا تزال قائمة في أمريكا اللاتينية، وواقفة كشوكة في حلق جارتها الشمالية، وكأن الأمر كان عنادًا وتحدى لنظام الولايات المتحدة الرأسمالي التي أرادت الأخيرة توطيده لصالحها في كل أنحاء القارة الأمريكية، وكان الأمر ساخرًا وبدا كأن السحر قد انقلب على الساحر، فمنذ أن سقط الاتحاد السوفيتي تجرّدت على الأثر الولايات المتحدة من كلّ أسلحتها وحُجَجها القديمة التي اعتادت استخدامها، فكيف تتدخل بحجة القضاء على الأفعى بينما قد سقط رأسها وداسته الأقدام في الاتحاد السوفيتي السابق، فتبقّت في أمريكا اللاتينية الحزازات القديمة، وذكرى سوء سياسة واستعلاء الجار الشمالي، وتبقى كذلك شعور الكرامة والقومية اللاتينية، التي ترى أنها الوريثة الحقيقية للتراث الأغريقي المسيحي الذي جاء إليها على يد المستعمرون الأسبان والبرتغاليين الأوائل، وكذا فأنها وريثة مجد تليد من حضاراتها الأصلية التي قامت على أرضها، كحضارة المايا والآزتك، وهذا يساعد على فهم ما حدث عام 2005 في قمة الأمريكيتين التي أقيمت في الأرجنتين، وحضرها بجانب رؤساء أمريكا اللاتينية، الرئيس الأمريكي جورج بوش، وعرض فيها من جديد للمشروع الأمريكي الرأسمالي الذ يهدف إلى إقامة منقطة تجارية حرّة في القارة اللاتينية، فواجه مشروعه هذا اعتراضات واسعة وعنيفة من رؤساء البرازيل والأرجنتين والأورجواي والباراجواي وفنزويلا، وقالوا مجتمعين أن الولايات المتحدة تريد بمشروعها هذا الذي تصرّ عليه أن تدمّر أقتصاد دولاتهم، ومن ثم هلّل الشعب اللاتيني فيما بعد لموقف قادته، ووقف الرئيس الفنزويلي "تشافيز" وقفته الخطابية المعتادة وسط الآلاف من أنصاره، وقال كلمته التاريخية الشهيرة عن وقفتهم الجماعية في هذا الاجتماع ضد أمريكا الرأسمالية، والتي تلاعب فيها بجناس الكلمات:

  ¡ALCA, ALCA, al carajo!
آلكا!، آلكا، آل كاراخو!

والآلكا هو اختصار الأحرف الأولى لمشروع منطقة التجارة الحرّة الأمريكي، باللغة الأسبانية، والـ" آل كاراخو"، تعني: إلى الجحيم!


فأمريكا كانت ولا تزال دولة رأسمالية في كل تعاملاتها الخارجية، مع قناع كاذب من الديموقراطية التي لم تفلح قط في تحقيقها خارج حدودها رغم كل تدخلاتها تحت لقب مزوَّر يسمّى: "صانعة السلام في هذا العالم"، وكذا لم تنجح في أن تصبغ على نفسها داخليًا لقب الدولة الديموقراطية، فحيثما قرأت أخبارها المحليّة وجدت أن السياسة فيها بين يدي أصحاب المال الذين هم أصحاب النفوذ الحقيقي فيها

Saturday, January 14, 2017

الدانوب الجديد جدًا




لعلَّنا نعرف ما الذي حدث في منتصف الطريق!، وهذا كتاب قصير اسمه "الدانوب الجديد" عن رحلة تبادل ثقافي قام بها المؤلف مع آخرين إلى رومانيا عام 1958، والدانوب هو النهر الذي يمرّ برومانيا، والمؤلف هنا هو أحمد حمروش، من الضباط الأحرار، والذي استقال من الجيش للتفرغ للعمل في الصحافة، وصاحب الكثير من الكتب السياسية والعسكرية وغير ذلك، وكانت هذه بعثة رسمية من مصر بعد الثورة إلى تلك الدولة التي تسير على خطى تطبيق الاشتراكية

وكان على طوال الكتاب الذي يستعرض يوميّات هذه الزيارة الرسمية يقول أن الدولة هناك تتحكم في كل شيء تقريبًا في الأسواق وأسعار السلع والمطاعم ومؤسسات التعليم والإذاعة والصحافة والمسرح وحتّى النوادي الليلية والكابريهات، كل هذا تملكه الحكومة، ولأنه من الضباط الأحرار ولأن هدف البعثة أصلا هو التعلّم من "التجارب الناجحة" للدول التي سبقتنا على مضمار الاشتراكية، لذا فقد رأى ببساطة أن هذا التحكّم الحكومي يعود بالخير على الجميع، ففي الأسواق اختفى الفصال واختفت فروق الأسعار بين المناطق المختلفة لأن الحكومة هي مَن توزّع المنتجات وتحدّد الأسعار، وأن مستوى التعليم في ارتفاع ملحوظ، وأن هناك مساحة من حرية النقد والانتقاد في الصحافة والمسرح، وأن المؤلف رأى بنفسه رسمة كاريكاترية في إحدى الصحف تمثّل وزيرًا في الدولة وقد أُغرق في الطين حتى رأسه بينما العمال يشاهدونه من الشرفات ويقولون له: "أن هذا جزاء عملك يا سيادة الوزير!"، وعدَّ ذلك من حرية الصحافة هناك التي هي تحت ملكية الحكومة، ما دامت لا تتعرّض مباشرة لنظام الدولة ذاته!

أي ما لم يقله صراحة أن الدولة موافقة جدًا على هذه الحرية ما دامت لا تمسّها في سياستها الرئيسية، وهذا بالطبع مع الكثير من الأرقام الاشتراكية وجمعيات التعاون وإنتاجيات المصانع وغير ذلك، كأهداف أي بعثة ثقافية، مع الكثير أيضًا من ذكر أن هذا النادي أو ذاك كان من قبل قصرًا ملكيًا لملك رومانيا السابق قبل الإطاحة به، وها قد آل للشعب الذي يحكم الآن!

لا أدري هل كان المؤلف مُغيَّبًا، ولا سيما أن إقامته من رومانيا لم تطل، وعاد منها بعد أيام لينشر بعد شهور قليلة كتابه هذا، أم تُرى كان يدري ويدرك أن الصورة لم تكن وردية قط، وأن الحكومة التي أعجب بتحكمها في كل شيء، كانت أسوأ من العهد السابق وأكثر استبدادًا، ووصلت أرقام ضحايا إجراءات القمع التي أتخذتها لتكميم الأفواه المعارضة من فض مظاهرات بالقوة والسجن والنفي والتصفية بالقتل على يد عصابات غير رسمية تابعة للحكومة، في ذلك العهد الذي يعجب به المؤلف: إلى عدد يدور حول 2 مليون ضحية

ويكفي أنه يسمّي فترة الاحتلال السوفيتي لرومانيا في تلك الفترة المجيدة التي يتحدث عنها، باسم: "تحرير رومانيا على يد الجيش السوفيتي"!، بينما التعبير الوحيد الموجود الآن في التاريخ هو: "فترة الاحتلال السوفيتي لرومانيا"، وأنا أصدق التاريخ!

ورأى في بوخارست محلاً تجاريًا خاصًا لسيدة رومانية، ورأى الأسعار فيها مختلفة عن أسعار الحكومة الأقل، ولأنه كان في مقام مدح للحكومة مع نفسه فقد قال إنها قالت له أنها تواجه منافسة رهيبة من الحكومة التي توزّع كل المنتجات على محلاتها في بوخارست والأقاليم بأسعار تقلّ كثيرًا عنها في أي محل خاص، ولكن المؤلف مرّ على تلك الكلمة مرورًا رأيته ساخرًا، وقال أن احتكار الحكومة هو الخير كله، لأن ذلك يضبط الأسعار وستضمن أنه لن يغشّك صاحب المحل الخاص أو يحاول أن يبيع لك بضاعة قديمة أو فاسدة، ثم يقول أن المحلات التجارية الخاصة أصلاً بما فيها محل تلك السيدة، أصبحت اليوم (حينذاك) في دور التصفية (يقصد الإفلاس ولكنه لم يكتبها) وأن أصحابها يختفون يومًا بعد يوم

ولا أفهم في الاقتصاد صراحة، ولكنه كان قبل هذه الكلمات مباشرة يقول عن المنتجات الرومانية الحديثة أنها لا تتميّز بالأناقة ولا تُغري بالشراء على أي حال، مقارنة بما تنتجه باريس مثلاً، فضلاً عن كونها غالية السعر بدرجة يشتكي منها الرومانيون أنفسهم، فما كانت فائدة هنا حقًا عندما قال أنه من الظلم مقارنة الأسعار بمثيلاتها في الرخيصة في مصر (حينذاك أيضًا!!) لأننا لن نضع في الاعتبار عامل مستوى الدخل للفرد، ما من فائدة من هذا الإيراد الذي قاله لأن .. لأن .. الذي كان يشتكي من الأسعار هو الشعب الروماني نفسه حسب حديثه مع بعضهم!

وينهي كتابه بهذه الكلمة الجامعة:
الحكومة هناك تحترم تقاليد الشعب، وتنحني دائمًا لرغبات الجماهير، الحريات التي كان ينعم بها لا تسلبها من يده تحت شعار "تحقيق الاشتراكية"، ولكنها تترك للأيام ولتيار الثقافة الذي يصبّ في العقول أن يحقق كل أهداف الحياة

وهي كلمة غالية!، رأيت فيها أنه ما دامت الدولة وضعت تحت تصرّفها كل منابع الثقافة وأمّمتها لصالحها، مع ترك هامش حرية ضئيل للجميع في الوقت الراهن على ألا يهاجم أو ينتقد نظام الدولة وغير ذلك فلا يهم، فأنَّ الزمن سيلعب لصالحها، وهذه الحرية الصغيرة لن تعمّر سوى اليسير، جيلاً أو أثنين!، ثم يحقق النظام الحاكم: "كل أهداف الحياة"!، كما قال، وهذه طبيعة النظام السياسي ولا تثريب عليه!، وقد تحققت بالنار والدم، وانتهت هذه الحقبة الاشتراكية-الشيوعية من تاريخ رومانيا بالثورة عليها بعد أن تحوّلت إلى ديكتاتورية بغيضة وحكم رئيس أوحد، وما زالت رومانيا إلى الآن من أقل الدول الأوروبية نموًا!، ومن أكثر الدول الأوروبية إعلانًا للإفلاس على نطاق الشركات، ومن أكثر الدول الأوروبية أيضًا إستدانة من خزينة الاتحاد الأوروبي!

ولكن نقطة مضيئة في هذا الكتاب، فأن المؤلف معروف باهتمامه بالمسرح، لذا فأكثر ناحية تحدّث عنها في رومانيا هي ناحية أحوال المسرح هناك من جولاته على المسارح وذكره لأسماء المسرحيات المعروضة حاليًا، والتي شاهد بعضها، ولقائه مع الفرق والممثلين ورجال إدارة المسارح، وبيّن أن الشغف المسرحي كان بارزًا خلال هذه الرحلة، لدرجة أنه أعجب هو وفتوح نشاطي (مخرج مسرحي معروف) بمسرحية اجتماعية رآها هناك ولخّص أحداثها سريعًا في حماسة، وسعى إلى مقابلة رجال المسرح في معهد العلاقات الثقافية المقام هناك، من أجل أن يحصل على نسخة مترجمة للإنجليزية أو الفرنسية من تلك المسرحية لعرضها بعد تمصيرها على المسرح المصري "بما يوافق ظروف المجتمع" كما قال، ولم تكن ثمّت نسخة مترجمة إلى أي لغة بعد، ولكن المعهد عندما عرف بنيّة إخراجها في القاهرة بادر بنفسه بعرض ترجمتها والقيام بإرسالها للقاهرة عند الانتهاء منها


ولكنها نقطة واحدة غارقة وسط بحر من الظلام، وكان من الأجدر به أن يعلم أن الذي شاهده من نظافة وبساطة وتحضر واجتماعية وحب الشعب الروماني للحرية والمسرح والكتب وتقديس العمل والحشمة وجميع قيم الحضارة الفاضلة الأخرى، إنما يرجع إلى سنوات طويلة قبل ذلك، وليس نتيجة حتمًا لفترة سياسية عابرة فُرضت عليهم من قبل الأقوى والأبطش!

Wednesday, January 11, 2017

من فرائد الجمهرة - 2




كتبَ إلى عمر بن العزيز عاملُه بالمدينة (بمثابة المحافظ الآن) أن يُصرف له من مال الدولة ثمن الشمع الذي يُستضاء به حين الخروج إلى صلاة العشاء والفجر، وقال له في رسالته أنه كان يُقطع من بيت المال لمَن أمسكوا من قبل منصبه هذا، ثمن هذا الشمع، وعندما أطلع عمر بن عبد العزيز على رسالته، رفض أن يصرف من بيت المال قيمة هذا البدل لرجال الدولة، وكتبَ إلى ذلك "المحافظ:
قد عهدتُكَ وأنت تخرج من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوَحِلة بغير سراج، ولَعَمري لأنتَ يومئذٍ خيرٌ منكَ اليومَ .. والسلام
وفي رواية ثانية:
فارضَ لنفسك اليومَ ما كنتَ ترضَى به قبل اليوم
ثم كتب إليه ذلك المحافظ نفسه، أن:
سلامٌ عليكَ، أما بعدُ، فإنّ بني عَدِيّ بن النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، انهدم مسجدهم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لهم ببنائه فليفعل
فأجابه عمر بن عبد العزيز بكتابٍ منه يقول فيه:
كنتُ أحبُّ أن أخرج من الدنيا ولم أضع حجرًا على حجر ولا لَبِنةً على لبنة، فإذا أتاك كتابي هذا فابْنِه لهم بلَبِنٍ بناءً قَصْدًا (أي مقتصدًا في تكاليفه)، والسلام عليك
هذا في شأن بناء مسجد أخوال الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم كتب إليه عامل ثانٍ على مدينة أخرى:
أما بعدُ، فإنّ مدينتنا قد خَرِبت، فإن يَرَ أميرُ المؤمنين أن يقطعَ لنا مالاً نَرِمُّها به، فَعَلَ!
فكتب إليه عُمر بن عبد العزيز:
أما بعدُ، فقد فَهِمتُ كتابك، وما ذكرتَ من أن مدينتكم قد خَرِبَت، فإذا قرأتَ كتابي هذا: فَحَصِّنْها بالعدل، ونقِّ طُرُقَها من الظلم، فإنّه مَرَمّتها، والسلام
وفي الحجّ كُتب إليه أن يأمر للبيت الحرام بكسوة جديدة، مثلما كان يفعل سلفه من قبل حين حلول موسم الحج، فكتب إليهم عمر بن عبد العزيز:
إنِّي رأيتُ أن أجعل ذلك في أكبادٍ جائعةٍ، فإنَّه أولى بذلك من البيت
 •

إنها أولويات، فترميم المساجد، وإنارة الطرقات وإصلاحها، وتعمير المدن، وبناء الحصون، وتوسيع الحرم المكّي، وتغيير كسوة البيت الحرام، كل ذلك في سُلَّم أولويات رئيس الدولة يقع على آخر الدرجات، فالدولة ليست مطالبة بتوفير إحتياجات المواطنين، فهذا أدعى للتواكل الكاذب والتدافع بالمناكب والأقدام أمام طوابير أي مشروع أو خدمة عامة أو توفير سلع تعلن الدولة عنها بأسعار مدعومة أو شروط ميسّرة، لأن ساكن الدولة هو الذي يعمّرها، وهو وحده المكُلَّف بالعمل والسعي وبناء أو شراء أو استئجار مسكنه وشراء كافة احتياجاته، فهذا جزء من رحلة الحياة، وأقصد بساكنها هو المواطن العادي مثلي ومثلك، وإن عدنا إلى ما نعتبره – نحن المسلمين – المدينةَ الفاضلة، وهي فترة إقامة النبي عليه الصلاة والسلام للمدينة، وإقامته لأول مجتمع مسلم عليها تحت إرشاده ورعايته، ثم ننظر إلى ما كان يُعمّر في المدينة من مساجد وحفر آبار وحدائق وبساتين وأسواق، ونسأل: هل كانت الدولة الإسلامية تتكفّل بشيء من تكلفة ذلك!، لا!، وإنما كان الميسّرون وأهل الثراء منهم هم من يصنعون ذلك، وها هو عثمان بن عفان يقوم، خلال حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بأعمال الدولة، من توفير الماء العذب للجميع، وتوسيع المسجد النبوي، وتجهيز الجيش

 وكان من أهل المدينة المنورة فقراء أغناهم الله من خلال عملهم وسعيهم، وها هم أهل الصُّفَّة، أفقر أهل المدينة والذين كانوا يقيمون في مؤخرة المسجد ولا يكادون يجدون ما يستر عورتهم من الملابس، والذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بهم سائر المسلمين، وكان يعطف عليهم بين آونة وأخرى، دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير حالتهم تغييرًا كليًا، فما الذي غيّر حالهم فيما بعد؟!، أمال الصدقة والزكاة؟!، لا!، ولا شيء سوى السعي واكتساب المال بأنفسهم، وإلا فكيف اغتنى "أبو هريرة" بعد حياة الفقر المدقعة التي كانت تضطره إلى وضع الحجر على بطنه من الجوع، وهو وسط أغنياء المسلمين وفيهم رسول الله!، وما الذي جعله يفخر بما آل إليه من ثراء في أخريات حياته؟

الإجابة: العمل ولا شيء غير العمل!، فبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، استعمله "عمر بن الخطاب" على البحرين، فعاد منها وقد اغتنى يسيرًا، فشكّ فيه الفاروق، و"مِن أين لك هذا؟!"، وخشي أن يكون قد أساء استخدام نفوذ منصبه، فقال له أبو هريرة أن رأس ماله كان من نتاج اشتغاله بالتجارة في بلاد البحرين، وتقصَّى عمر بن الخطاب ما قاله بما عُرف عنه من حزم، فثبت له صدق أبي هريرة 

إذن فإذا خَربت تلك المدينة الإسلامية وطلب محافظها أن تعينه الدولة بالمال لكي يعيد بنائها وترميمها، وأجابه رئيس الدولة قائلاً:
حَصِّنْها بالعدل، ونقِّ طُرُقَها من الظلم، فإنّه مَرَمّتها
فهذه ليست كلمات مثالية، أي نعم، قد تصلح أن تكون زادًا للسخرية من قائلها على شبكات التواصل الاجتماعي لشهور وسنين، ولكن عمر بن عبد العزيز كان يدرك ما وراء كلماته هذه، لأنه قبل أن يقولها قال مؤكدًا:
قد فَهِمتُ كتابك!
والسؤال هنا، ما الذي فهمه؟!
فقد طلب المحافظ المال من خزينة الدولة ليصلح به خراب مدينته، من بناء حصون وشق طرق وغير ذلك، فأجابه الرئيس: حصّنها بالعدل ونقِّ الطرق من الظلم، وحسبك ذلك!
• 

لنتخيّل المشهد ..، ولكن لماذا نتخيّل!، لنعود إلى التجربة العملية، فقد سبق أن أرسل عمر بن عبد العزيز أحدهم ليكون محافظًا على مدينة الموصل، فلما ذهب إليهم وجد أن الحال في تلك المدينة لا يُسرَّ، وأنها في فوضى، وأن سمعة أهلها طافحة بأنهم أكثر الناس سرقة ونهبًا، فأحبّ المحافظ أن يأخذهم بالحزم البالغ ويشدّد عليهم ويأخذهم بالتهمة والظن ويطبّق قانون الطوارئ عليهم ليصلح حالهم، بما أن الأمر فشا بينهم، ولكنه كتب قبل ذلك يعرض حال ما وجد عليه مدينة الموصل إلى رئيسه، ويقترح أن يوافق على ما رآه من إجراءات التشدّد، فلم يجبه إلى ذلك رئيسه وأرشده إلى الصواب، وبعد سنوات حكى ذلك المحافظ تلك الحكاية، فقال:
لمّا ولاّني عمر بن عبد العزيز المَوْصِلَ، قَدِمْتُها فوجدتُها من أكثر البلاد سرقًا ونقبًا، فكتبتُ إلى عمر أُعْلِمه حال البلد، وأسأله: آخذ الناس بالظنّة وأضربهم على التهمة؟، أو آخذهم بالبيّنة وما جرت عليه السُّنَّة؟؛ فكتبَ إليَّ: "خذ الناس بالبيّنة وما جرَت عليه السُّنَّة، فإن لم يصلحهم الحقُّ فلا أصلحهم الله"؛ ففعلتُ ذلك، فما خرجتُ من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلّها سَرَقًا ونَقْبًا



إذن فقد أجاب عمر بن عبد العزيز على محافظ المدينة الخربة، بقوله: قد فهمت كتابك!، ثم أوصاه بالعدل والبعد عن الظلم بين الرعيّة، ولم يرسل مالاً أو عتادًا أو عمّالاً رغم أن المال كان وفيرًا في عهده وفائضًا عن الحاجة، ولكنه رأى بالتطبيق العملي أن المواطن العادي إذا أَمِنَ على نفسه وماله وأهله في ظلِّ نظام عادل، فسيتفرّغ لِما خُلق له من عمل، والعمل يدرُّ أموالاً، والأموال تبني الدور والمصانع، وتحفر الآبار، وتهيّأ الطرق، وتجلب العمّال، وتقيم لهم المستشفيات والمدارس لأولادهم، وهلم جرًّا، لأن صاحب هذا المال سيرغب قطعًا أن يعيش في بقعة يحبّ أن يستقرّ بها، وهذا الاستقرار يتطلّب أن يقوم بكل هذا العمران وأن ينشأ كذلك الحصون للدفاع عن تلك البقعة من المغيرين، وما دام قد أمنَ على رزقه وماله وأهله، فما الذي سيدفعه إلى مغادرة هذه البقعة المباركة بالعمل!

وهذه صورة مصغّرة لتخّيل الصورة العامة الكبيرة، فالحديث ليس عن إنسان واحد، بل أفراد وقبائل وجماعات ومهن وأفكار ومذاهب شتَّى، وفي القول المأثور أنه لو كنس كل أحد أمام بيته لغدا العالم كله نظيفًا، إذن جميعهم سيعملون ما هم مهيأون له، وجميعهم سيدرّ عملهم أموالاً أو فضلاً أو علمًا، وجميعهم سيجذبون الآخرين إلى محيطهم والقرب منهم والأخذ عنهم، وجميعهم سيريدون أن يعيشوا في حياة هانئة، وجميعهم سيشعرون بالامتنان نحو مدينتهم العادلة التي لا تحاربهم في رزقهم، ولا تصادره حسب هواها، والتي لا تضيّق عليهم في أفكارهم بالحبس والسجن، أو أموالهم فترهقهم بالضرائب الباهظة أو الإجراءات والقوانين العقيمة، والتي لا تغفل عن معدومي الضمير من عمّالها الذي يطلبون الرشوة جهارًا من أجل تيسير أعمالهم، وجميعهم خيرهم سيعمّ جميعهم، وجميعهم سيهيّأون الفرصة لآخرين وآخرين من بعدهم كي يعملوا ويكسبوا ويبنوا بدورهم البيوت والمساجد والمستشفيات، فمتى ما أمن الإنسان على نفسه وماله، أعطى أكثر وساهم أكثر وحاول أكثر أن يردّ الجميل لهذا المكان الذي رعى ثروته ونماها

ود. حسين مؤنس في كتاباته الإسلامية كرر كثيرًا أن الذي شقّ الطرق بين المدن وربط العالم الإسلامي بعضه ببعض، هم التجار والحجّاج، فطريق الحج وطريق القوافل التجارية هل التي شقّت تحت أقدامها الطرق التي تربط الدول الإسلامية ببعض، وهي التي أقامت على جوانب هذه الطرق ما يحتاج إليه التاجر والحاج، من خانات وأسبلة
 •

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأسارى المسلمين بقسطنطينية:
أما بعد، فإنكم تعدون أنفسكم أسارى ولستم أسارى. معاذ الله ! أنتم الحبساء في سبيل الله. واعلموا أني لست أقسم شيئاً بين رعيتي إلا خصصت أهلكم بأوفر ذلك وأطيبه. ولقد بعثت إليكم خمسةَ دنانير، خمسةَ دنانير. ولولا أني خشيت إن زدتكم أن يحبسه عنكم طاغية الروم لزدتكم. وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم، ذكركم وأنثاكم، حركم ومملوككم بما يُسأل، فأبشروا ثم أبشروا!


تأمّلوا!، مِن أجل أسرى المسلمين أرسل الرئيس الحريص على ألا يُصرف قرش من خزينة الدولة في التعمير أو البناء أو كسوة البيت، ويحاسب حسابًا شديدًا على ضياع دينار واحد من خزينة الدولة، ويقتصد غاية الاقتصاد في إعادة بناء المسجد المتهدّم (تخيّلوا لو كان مطلب أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بناءَ مسجد جديد في مكان ثان، ماذا كان سيكون ردّه!)، ذلك الرئيس ومن أجل ألا يُذلّ مسلمٌ وقع في يد دولة معادية، أرسل سفيرًا يحمل أمرًا واحدًا، أن يُخلِّصهم ويدفع فدية إطلاق سراحهم، مهما تكلّف الأمر من مال

والدولة المعادية ستعمل بكل تأكيد على إرهاق عدوّتها الأخرى بما لا يُطاق من الأموال قبل إجابتها إلى طلبها، والمال لم يكن يهمّ ذلك الرئيس الحريص عليه في غير ذلك الأمر، لذلك كتب إلى الأسرى أنه قال لسفيره أن يخلّصهم بأي مبلغ من المال، ودون مساومة، وإن سألت الدولة المعادية الملايين من أجل هذا الشأن، فالأمر إليه واضح: "بما يُسْأل"

وجميع ما قاله عمر بن عبد العزيز كان يخرج من مشكاة واحدة، فلا تناقض بين أي من أقضيته، فالإنسان مقدّم على العمران

فأبشروا ثم أبشروا!