Monday, January 16, 2017

اللاتينا ضد أفندينا




منذ النصف الأول من القرن الماضي والصراع بين الرأسمالية (النسر) والشيوعية (الدب) على أمريكا اللاتينية على أشدّه، ولاقت بينهما القارة المنسيَّة ما لاقت من التدخّل السياسي من الدب في أراضيها، ومن  من محاولات سيطرة واستغلال النسر لمواردها الغنيّة في كل ما تنتجه، البترول والفواكه والسكر والبُن والنحاس والقصدير، وكيف أن الولايات المتحدة كانت تستخدم من أجل هذه الغاية فزّاعة الشيوعية وحجّة الدفاع عن الحرية في العالم، من أجل التدخّل في سياسيات القارة اللاتينية، بينما كان السبب الحقيقي يكمن في أن الشيوعية كان ستنهي استغلال الولايات المتحدة لموارد أمريكا اللاتينية لأن الإدارة الشيوعية لموارد البلاد تختلف عن الإدارة الرأسمالية بطبيعة الحال

لذا وفي سبيل إغلاق الطريق أمام أي تأميمات شعبية للشركات الاقتصادية الكبرى في القارة اللاتينية والتي تُهيمنّ على ملكيتها الولايات المتحدة ولمصلحتها منفردة، لجأت تلك الأخيرة دومًا إلى استخدام حجة مناهضة الشيوعية ومنع انتشارها في تلك البلاد، رغم أن د. حسين مؤنس وعند إحدى استطراداته في كتابه "الإسلام في عشرين آية" ذكر أن البلاد اللاتينية في تلك الحقبة لم تترام في أحضان الشيوعية لنجاح اختراقات الدب السوفيتي أو الدعم الصيني أو لأن تعاليم ماركس ومبادئ لينين وجدتا آذانًا صاغية أو غير ذلك من الأسباب التي تشيعها الولايات المتحدة، وإنما ببساطة لأن اللاتينين عانوا الأمرّين من النظام الرأسمالي الأمريكي، حيث شركات الجار الشمالي تحقق أرباحًا طائلاً وتصدّر أكثر منتجاتها إلى وطنها الأمّ في الشمال، بينما تعطي الملاليم للعمال الوطنيين أبناء القارة اللاتينية، كأجور بخسة، وترفض باستمرار تحسين أوضاعهم أو تنمية المجتمع اللاتيني من حولها، وقصة البترول المسكيكي أحسستها ضمن قصة كاريكاتورية ساخرة، وأنا أقرأها برواية "سلفادور دي مادارياجا" مؤلف كتاب "أمريكا اللاتينية بين النسر والدب"، الذي أكتب تحت تأثيره هذه الكلمات، حيث استعرض موقف شركات البترول الأجنبية في المكسيك، من أنها كانت تخفي أرباحها الحقيقية تهربًا من دفع الضرائب للدولة، وأنها كان في استطاعتها أن تضاعف أجور عمّالها دون أن يؤثّر ذلك أدنى تأثير على مركزها المالي أو أرباحها السنوية، وأنها لا توجّه أي اهتمام للخدمات الاجتماعية في الدولة المقامة عليها، لذا فقد ..
طالب الرئيس المكسيكي "كاردنياس" هذه الشركات بإجابة مطالب العمّال المكسيكيين، فرفضت الشركات، وعُرض الأمر على لجنة تحكيم، ثم على المحكمة العليا، وكلتاهما أيّدتا مطالب العمال، ومع ذلك أصرّت الشركات الأجنبية على الرفض، فما كان من الرئيس "كاردنياس" إلا أن أذاع تصريحًا في الراديو بأن شركات البترول قد أُممّت، وقبل أن يغادر "كاردنياس" الميكرفون، كان مبعوثو الشركات يقفون أمامه ليعرضوا عليه موافقة شركاتهم على قرار لجنة التحكيم والمحكمة العلياولكن هذه الخطوة جاءت بعد فوات الأوان، فقد صدر قرار التأميم، وحقيقة أن المكسيك تعثّرت في بادئ الأمر في استثمار البترول، ولكن بعد عدة تجارب استطاعت التغلب على الأزمة وأخذ البترول المكسيكي يتدفق إلى الخارجولما أدركت الشركات الأجنبية أنه لا فائدة من محاولة إعادة الأوضاع القديمة، وبخاصة أن الرئيس "روزفلت" استقبل قرار تأميم البترول المسكيكي في هدوء، طالبت هذه الشركات بالتعويض، وقد بالغت أولاً في تقدير قيمة التعويض، إذ طالبت بمبلغ 2000 مليون دولار، ولكنها قبلت أخيرًا 115 مليون دولار فقط، دفعتها المكسيك وانتهت سيطرة الشركات الأجنبية على البترول المكسيكي

 لذا كانت جنّة الشيوعية وما تعد به من أن الخيرات للجميع، خيارًا مناسبًا للاتينيين مقارنة بجحيم رأسمالية أمريكا البغيضة التي عرفوها عيانًا

كما أن أمريكا ومن أجل مناهضة الشيوعية وعدم السماح لها بالحكم في بلدان القارة اللاتينية، كانت تؤيّد علانية الدكتاتوريين، وتدعم وصولهم إلى سدة الحكم بالمال والسلاح، ما دامت مشروعاتها الاقتصادية لا تُمسّ، وهذا كان كل ما يهمّها صراحة وكان هذا هو خطر الشيوعية الاكبر بالنسبة لها، المصالح الاقتصادية!، حتَّى يصحّ القول أنه حيثما أثارت أمريكا نزاعًا في العالم ففتِّش عن مصالح المال!، على غرار المثل الفرنسي الأشهر: "شيرشي لا فام!"

 وكان هذا الاتجاه يعتبر "الأسهل والأوفر" بالنسبة لها، لأن تقديم الرشاوي والمال والسلاح إلى الدكتاتور: "أسهل وأوفر من تبديد الأموال في إرضاء مجموعة كبيرة من السياسيين" – كما ذكر المؤلف– من السياسيين وغيرهم من رجال الأحزاب والدولة، فالدكتاتور يسيطر بقبضة حديدية على الجميع، وإن سيّطر أحدهم على صاحب هذه القبضة الحديدية فسيطرته ستمتد إلى الجميع كذلك!، وما أكبر إغراء المال ..
وقد يرفض الدكتاتور المالَ مدّعيًا النزاهة، وهو في هذه الحالة يكتفي بالحصول على تأييد من واشنطون سواء كان صادرًا من أصحاب الاستثمارات أو من وزارة الدفاع، فإذا ما حقّق الدكتاتور ذلك اتجه إلى قومه متفاخرًا مزهورًا بأنه حقّقَ "عملاً عظيمًا" في السياسة الخارجية، وهذا بدوره سيفتُّ في عضد معارضيه

 إننا أبرياء حقًا أمام دهاء السياسة!
:D

ما يهم، وأثناء حديثه عن موقف سياسي حدث في جواتيمالا والتدخّل السافر للولايات المتحدة فيه، عرض في ختام كلماته هذه النقاط الذهبية التي تُلخَّص في افتتان سياسة أمريكا العامة في القارة اللاتينية:
  • أن حكومة واشنطون ساهمت مساهمة قوية في قلب الحكومة الموالية للشيوعية في جواتيمالا
  • أن حكومة واشنطون لم تخش شيئًا من انكشاف أمر هذه السياسة
  • أنها في سبيل تحقيق هذا الهدف لم تتورع عن الاتفاق مع "انستاسيو" وهو من أشدّ الدكتاتوريين عتوًا في أمريكا اللاتينية
  • أن حكومة واشنطون بهذا العمل قد أثبتت أنها لا تعارض الشيوعية لأنها تعارض الحرية الإنسانية، بل لأنها تهدد مصالح الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية
  • أن دعوى الولايات المتحدة بخطورة الموقف بحجّة التسلل الشيوعي إلى نصف الكرة الغربي وخنق الحرية تبعًا لذلك، إنما هي دعوى لا تقوم على أساس ولا تقنع الرأي العام العالمي، وذلك لأن خنق الشيوعية للحرية مسألة افتراضية، أما خنق النظام الدكتاتوري للحرية فمسأله يؤيّدها الواقع


ومن أجل تلك السياسة الأمريكية المستبدّة والتي لا تر سوى نفسها على الساحة، وعلى الرغم من سقوط الاتحاد السوفيتي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وانفراد النسر على قمة العالم، إلا أن قواعد الاشتراكية والشيوعية والحكومات اليسارية كانت لا تزال قائمة في أمريكا اللاتينية، وواقفة كشوكة في حلق جارتها الشمالية، وكأن الأمر كان عنادًا وتحدى لنظام الولايات المتحدة الرأسمالي التي أرادت الأخيرة توطيده لصالحها في كل أنحاء القارة الأمريكية، وكان الأمر ساخرًا وبدا كأن السحر قد انقلب على الساحر، فمنذ أن سقط الاتحاد السوفيتي تجرّدت على الأثر الولايات المتحدة من كلّ أسلحتها وحُجَجها القديمة التي اعتادت استخدامها، فكيف تتدخل بحجة القضاء على الأفعى بينما قد سقط رأسها وداسته الأقدام في الاتحاد السوفيتي السابق، فتبقّت في أمريكا اللاتينية الحزازات القديمة، وذكرى سوء سياسة واستعلاء الجار الشمالي، وتبقى كذلك شعور الكرامة والقومية اللاتينية، التي ترى أنها الوريثة الحقيقية للتراث الأغريقي المسيحي الذي جاء إليها على يد المستعمرون الأسبان والبرتغاليين الأوائل، وكذا فأنها وريثة مجد تليد من حضاراتها الأصلية التي قامت على أرضها، كحضارة المايا والآزتك، وهذا يساعد على فهم ما حدث عام 2005 في قمة الأمريكيتين التي أقيمت في الأرجنتين، وحضرها بجانب رؤساء أمريكا اللاتينية، الرئيس الأمريكي جورج بوش، وعرض فيها من جديد للمشروع الأمريكي الرأسمالي الذ يهدف إلى إقامة منقطة تجارية حرّة في القارة اللاتينية، فواجه مشروعه هذا اعتراضات واسعة وعنيفة من رؤساء البرازيل والأرجنتين والأورجواي والباراجواي وفنزويلا، وقالوا مجتمعين أن الولايات المتحدة تريد بمشروعها هذا الذي تصرّ عليه أن تدمّر أقتصاد دولاتهم، ومن ثم هلّل الشعب اللاتيني فيما بعد لموقف قادته، ووقف الرئيس الفنزويلي "تشافيز" وقفته الخطابية المعتادة وسط الآلاف من أنصاره، وقال كلمته التاريخية الشهيرة عن وقفتهم الجماعية في هذا الاجتماع ضد أمريكا الرأسمالية، والتي تلاعب فيها بجناس الكلمات:

  ¡ALCA, ALCA, al carajo!
آلكا!، آلكا، آل كاراخو!

والآلكا هو اختصار الأحرف الأولى لمشروع منطقة التجارة الحرّة الأمريكي، باللغة الأسبانية، والـ" آل كاراخو"، تعني: إلى الجحيم!


فأمريكا كانت ولا تزال دولة رأسمالية في كل تعاملاتها الخارجية، مع قناع كاذب من الديموقراطية التي لم تفلح قط في تحقيقها خارج حدودها رغم كل تدخلاتها تحت لقب مزوَّر يسمّى: "صانعة السلام في هذا العالم"، وكذا لم تنجح في أن تصبغ على نفسها داخليًا لقب الدولة الديموقراطية، فحيثما قرأت أخبارها المحليّة وجدت أن السياسة فيها بين يدي أصحاب المال الذين هم أصحاب النفوذ الحقيقي فيها

No comments: