Wednesday, January 11, 2017

من فرائد الجمهرة - 2




كتبَ إلى عمر بن العزيز عاملُه بالمدينة (بمثابة المحافظ الآن) أن يُصرف له من مال الدولة ثمن الشمع الذي يُستضاء به حين الخروج إلى صلاة العشاء والفجر، وقال له في رسالته أنه كان يُقطع من بيت المال لمَن أمسكوا من قبل منصبه هذا، ثمن هذا الشمع، وعندما أطلع عمر بن عبد العزيز على رسالته، رفض أن يصرف من بيت المال قيمة هذا البدل لرجال الدولة، وكتبَ إلى ذلك "المحافظ:
قد عهدتُكَ وأنت تخرج من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوَحِلة بغير سراج، ولَعَمري لأنتَ يومئذٍ خيرٌ منكَ اليومَ .. والسلام
وفي رواية ثانية:
فارضَ لنفسك اليومَ ما كنتَ ترضَى به قبل اليوم
ثم كتب إليه ذلك المحافظ نفسه، أن:
سلامٌ عليكَ، أما بعدُ، فإنّ بني عَدِيّ بن النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، انهدم مسجدهم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لهم ببنائه فليفعل
فأجابه عمر بن عبد العزيز بكتابٍ منه يقول فيه:
كنتُ أحبُّ أن أخرج من الدنيا ولم أضع حجرًا على حجر ولا لَبِنةً على لبنة، فإذا أتاك كتابي هذا فابْنِه لهم بلَبِنٍ بناءً قَصْدًا (أي مقتصدًا في تكاليفه)، والسلام عليك
هذا في شأن بناء مسجد أخوال الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم كتب إليه عامل ثانٍ على مدينة أخرى:
أما بعدُ، فإنّ مدينتنا قد خَرِبت، فإن يَرَ أميرُ المؤمنين أن يقطعَ لنا مالاً نَرِمُّها به، فَعَلَ!
فكتب إليه عُمر بن عبد العزيز:
أما بعدُ، فقد فَهِمتُ كتابك، وما ذكرتَ من أن مدينتكم قد خَرِبَت، فإذا قرأتَ كتابي هذا: فَحَصِّنْها بالعدل، ونقِّ طُرُقَها من الظلم، فإنّه مَرَمّتها، والسلام
وفي الحجّ كُتب إليه أن يأمر للبيت الحرام بكسوة جديدة، مثلما كان يفعل سلفه من قبل حين حلول موسم الحج، فكتب إليهم عمر بن عبد العزيز:
إنِّي رأيتُ أن أجعل ذلك في أكبادٍ جائعةٍ، فإنَّه أولى بذلك من البيت
 •

إنها أولويات، فترميم المساجد، وإنارة الطرقات وإصلاحها، وتعمير المدن، وبناء الحصون، وتوسيع الحرم المكّي، وتغيير كسوة البيت الحرام، كل ذلك في سُلَّم أولويات رئيس الدولة يقع على آخر الدرجات، فالدولة ليست مطالبة بتوفير إحتياجات المواطنين، فهذا أدعى للتواكل الكاذب والتدافع بالمناكب والأقدام أمام طوابير أي مشروع أو خدمة عامة أو توفير سلع تعلن الدولة عنها بأسعار مدعومة أو شروط ميسّرة، لأن ساكن الدولة هو الذي يعمّرها، وهو وحده المكُلَّف بالعمل والسعي وبناء أو شراء أو استئجار مسكنه وشراء كافة احتياجاته، فهذا جزء من رحلة الحياة، وأقصد بساكنها هو المواطن العادي مثلي ومثلك، وإن عدنا إلى ما نعتبره – نحن المسلمين – المدينةَ الفاضلة، وهي فترة إقامة النبي عليه الصلاة والسلام للمدينة، وإقامته لأول مجتمع مسلم عليها تحت إرشاده ورعايته، ثم ننظر إلى ما كان يُعمّر في المدينة من مساجد وحفر آبار وحدائق وبساتين وأسواق، ونسأل: هل كانت الدولة الإسلامية تتكفّل بشيء من تكلفة ذلك!، لا!، وإنما كان الميسّرون وأهل الثراء منهم هم من يصنعون ذلك، وها هو عثمان بن عفان يقوم، خلال حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بأعمال الدولة، من توفير الماء العذب للجميع، وتوسيع المسجد النبوي، وتجهيز الجيش

 وكان من أهل المدينة المنورة فقراء أغناهم الله من خلال عملهم وسعيهم، وها هم أهل الصُّفَّة، أفقر أهل المدينة والذين كانوا يقيمون في مؤخرة المسجد ولا يكادون يجدون ما يستر عورتهم من الملابس، والذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بهم سائر المسلمين، وكان يعطف عليهم بين آونة وأخرى، دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير حالتهم تغييرًا كليًا، فما الذي غيّر حالهم فيما بعد؟!، أمال الصدقة والزكاة؟!، لا!، ولا شيء سوى السعي واكتساب المال بأنفسهم، وإلا فكيف اغتنى "أبو هريرة" بعد حياة الفقر المدقعة التي كانت تضطره إلى وضع الحجر على بطنه من الجوع، وهو وسط أغنياء المسلمين وفيهم رسول الله!، وما الذي جعله يفخر بما آل إليه من ثراء في أخريات حياته؟

الإجابة: العمل ولا شيء غير العمل!، فبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، استعمله "عمر بن الخطاب" على البحرين، فعاد منها وقد اغتنى يسيرًا، فشكّ فيه الفاروق، و"مِن أين لك هذا؟!"، وخشي أن يكون قد أساء استخدام نفوذ منصبه، فقال له أبو هريرة أن رأس ماله كان من نتاج اشتغاله بالتجارة في بلاد البحرين، وتقصَّى عمر بن الخطاب ما قاله بما عُرف عنه من حزم، فثبت له صدق أبي هريرة 

إذن فإذا خَربت تلك المدينة الإسلامية وطلب محافظها أن تعينه الدولة بالمال لكي يعيد بنائها وترميمها، وأجابه رئيس الدولة قائلاً:
حَصِّنْها بالعدل، ونقِّ طُرُقَها من الظلم، فإنّه مَرَمّتها
فهذه ليست كلمات مثالية، أي نعم، قد تصلح أن تكون زادًا للسخرية من قائلها على شبكات التواصل الاجتماعي لشهور وسنين، ولكن عمر بن عبد العزيز كان يدرك ما وراء كلماته هذه، لأنه قبل أن يقولها قال مؤكدًا:
قد فَهِمتُ كتابك!
والسؤال هنا، ما الذي فهمه؟!
فقد طلب المحافظ المال من خزينة الدولة ليصلح به خراب مدينته، من بناء حصون وشق طرق وغير ذلك، فأجابه الرئيس: حصّنها بالعدل ونقِّ الطرق من الظلم، وحسبك ذلك!
• 

لنتخيّل المشهد ..، ولكن لماذا نتخيّل!، لنعود إلى التجربة العملية، فقد سبق أن أرسل عمر بن عبد العزيز أحدهم ليكون محافظًا على مدينة الموصل، فلما ذهب إليهم وجد أن الحال في تلك المدينة لا يُسرَّ، وأنها في فوضى، وأن سمعة أهلها طافحة بأنهم أكثر الناس سرقة ونهبًا، فأحبّ المحافظ أن يأخذهم بالحزم البالغ ويشدّد عليهم ويأخذهم بالتهمة والظن ويطبّق قانون الطوارئ عليهم ليصلح حالهم، بما أن الأمر فشا بينهم، ولكنه كتب قبل ذلك يعرض حال ما وجد عليه مدينة الموصل إلى رئيسه، ويقترح أن يوافق على ما رآه من إجراءات التشدّد، فلم يجبه إلى ذلك رئيسه وأرشده إلى الصواب، وبعد سنوات حكى ذلك المحافظ تلك الحكاية، فقال:
لمّا ولاّني عمر بن عبد العزيز المَوْصِلَ، قَدِمْتُها فوجدتُها من أكثر البلاد سرقًا ونقبًا، فكتبتُ إلى عمر أُعْلِمه حال البلد، وأسأله: آخذ الناس بالظنّة وأضربهم على التهمة؟، أو آخذهم بالبيّنة وما جرت عليه السُّنَّة؟؛ فكتبَ إليَّ: "خذ الناس بالبيّنة وما جرَت عليه السُّنَّة، فإن لم يصلحهم الحقُّ فلا أصلحهم الله"؛ ففعلتُ ذلك، فما خرجتُ من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلّها سَرَقًا ونَقْبًا



إذن فقد أجاب عمر بن عبد العزيز على محافظ المدينة الخربة، بقوله: قد فهمت كتابك!، ثم أوصاه بالعدل والبعد عن الظلم بين الرعيّة، ولم يرسل مالاً أو عتادًا أو عمّالاً رغم أن المال كان وفيرًا في عهده وفائضًا عن الحاجة، ولكنه رأى بالتطبيق العملي أن المواطن العادي إذا أَمِنَ على نفسه وماله وأهله في ظلِّ نظام عادل، فسيتفرّغ لِما خُلق له من عمل، والعمل يدرُّ أموالاً، والأموال تبني الدور والمصانع، وتحفر الآبار، وتهيّأ الطرق، وتجلب العمّال، وتقيم لهم المستشفيات والمدارس لأولادهم، وهلم جرًّا، لأن صاحب هذا المال سيرغب قطعًا أن يعيش في بقعة يحبّ أن يستقرّ بها، وهذا الاستقرار يتطلّب أن يقوم بكل هذا العمران وأن ينشأ كذلك الحصون للدفاع عن تلك البقعة من المغيرين، وما دام قد أمنَ على رزقه وماله وأهله، فما الذي سيدفعه إلى مغادرة هذه البقعة المباركة بالعمل!

وهذه صورة مصغّرة لتخّيل الصورة العامة الكبيرة، فالحديث ليس عن إنسان واحد، بل أفراد وقبائل وجماعات ومهن وأفكار ومذاهب شتَّى، وفي القول المأثور أنه لو كنس كل أحد أمام بيته لغدا العالم كله نظيفًا، إذن جميعهم سيعملون ما هم مهيأون له، وجميعهم سيدرّ عملهم أموالاً أو فضلاً أو علمًا، وجميعهم سيجذبون الآخرين إلى محيطهم والقرب منهم والأخذ عنهم، وجميعهم سيريدون أن يعيشوا في حياة هانئة، وجميعهم سيشعرون بالامتنان نحو مدينتهم العادلة التي لا تحاربهم في رزقهم، ولا تصادره حسب هواها، والتي لا تضيّق عليهم في أفكارهم بالحبس والسجن، أو أموالهم فترهقهم بالضرائب الباهظة أو الإجراءات والقوانين العقيمة، والتي لا تغفل عن معدومي الضمير من عمّالها الذي يطلبون الرشوة جهارًا من أجل تيسير أعمالهم، وجميعهم خيرهم سيعمّ جميعهم، وجميعهم سيهيّأون الفرصة لآخرين وآخرين من بعدهم كي يعملوا ويكسبوا ويبنوا بدورهم البيوت والمساجد والمستشفيات، فمتى ما أمن الإنسان على نفسه وماله، أعطى أكثر وساهم أكثر وحاول أكثر أن يردّ الجميل لهذا المكان الذي رعى ثروته ونماها

ود. حسين مؤنس في كتاباته الإسلامية كرر كثيرًا أن الذي شقّ الطرق بين المدن وربط العالم الإسلامي بعضه ببعض، هم التجار والحجّاج، فطريق الحج وطريق القوافل التجارية هل التي شقّت تحت أقدامها الطرق التي تربط الدول الإسلامية ببعض، وهي التي أقامت على جوانب هذه الطرق ما يحتاج إليه التاجر والحاج، من خانات وأسبلة
 •

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأسارى المسلمين بقسطنطينية:
أما بعد، فإنكم تعدون أنفسكم أسارى ولستم أسارى. معاذ الله ! أنتم الحبساء في سبيل الله. واعلموا أني لست أقسم شيئاً بين رعيتي إلا خصصت أهلكم بأوفر ذلك وأطيبه. ولقد بعثت إليكم خمسةَ دنانير، خمسةَ دنانير. ولولا أني خشيت إن زدتكم أن يحبسه عنكم طاغية الروم لزدتكم. وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم، ذكركم وأنثاكم، حركم ومملوككم بما يُسأل، فأبشروا ثم أبشروا!


تأمّلوا!، مِن أجل أسرى المسلمين أرسل الرئيس الحريص على ألا يُصرف قرش من خزينة الدولة في التعمير أو البناء أو كسوة البيت، ويحاسب حسابًا شديدًا على ضياع دينار واحد من خزينة الدولة، ويقتصد غاية الاقتصاد في إعادة بناء المسجد المتهدّم (تخيّلوا لو كان مطلب أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بناءَ مسجد جديد في مكان ثان، ماذا كان سيكون ردّه!)، ذلك الرئيس ومن أجل ألا يُذلّ مسلمٌ وقع في يد دولة معادية، أرسل سفيرًا يحمل أمرًا واحدًا، أن يُخلِّصهم ويدفع فدية إطلاق سراحهم، مهما تكلّف الأمر من مال

والدولة المعادية ستعمل بكل تأكيد على إرهاق عدوّتها الأخرى بما لا يُطاق من الأموال قبل إجابتها إلى طلبها، والمال لم يكن يهمّ ذلك الرئيس الحريص عليه في غير ذلك الأمر، لذلك كتب إلى الأسرى أنه قال لسفيره أن يخلّصهم بأي مبلغ من المال، ودون مساومة، وإن سألت الدولة المعادية الملايين من أجل هذا الشأن، فالأمر إليه واضح: "بما يُسْأل"

وجميع ما قاله عمر بن عبد العزيز كان يخرج من مشكاة واحدة، فلا تناقض بين أي من أقضيته، فالإنسان مقدّم على العمران

فأبشروا ثم أبشروا!



No comments: