Thursday, November 6, 2008

اللص والكلاب


 

أما اللص فهو بطل الرواية والراوي الذي نرى الأحداث بعينه، وهو لص قديم محترف دخل السجن لعدة سنوات بسبب وشاية وهو يتقن حرفة واحدة وهي السرقة وخرج وهو يتقن حرفتين: السرقة والخياطة، ولأن حرفة السرقة هي أقصر طريق لكي يؤسس حياة لائقة تكفي لكي يقنع القاضي بأنه قادر على استعادة ابنته من أنياب زوجته التي حصلت على الطلاق وهو في السجن وارتمت في أحضان صديق له، وهذا الصديق الأخير هو الذي يظنه بطل الرواية مصدر الوشاية به لضباط المباحث، لذلك فهو يكرهه وتغذى على هذه الكراهية في ظلام ليالي السجن وهو يحلم بوحشية بالانتقام منه ومن زوجته الخائنة!، وهو يرى أن هذا الصديق بعض من إحسانه، فهو الذي علمه الوقوف على قدميه بعد أن يتعلق في ساقيْ البطل كالكلب، وهو الذي جعل جامع الأعقاب هذا رجلا، والوصفان الأخيران ليس لي وإنما الراوي والبطل هو الذي قالهما لنفسه في لحظة خروجه من باب السجن، لتلك الأسباب قرر العودة مرة أخرى إلى مهنته الأولى وهي السرقة، وخاصة مع اقتناعه أنه لم يسقط في قبضة الشرطة إلا بسبب تلك الوشاية


إذن فهو يرغب في الانتقام الأعمى مِن الذين يظن أنهم السبب في دخوله السجن، زوجته السابقة وصديقها، وأحيانًا قد يرق قلبه ويفكر في مصير ابنته الصغيرة التي تعيش معهما، ولكنه لا ينشغل بذلك كثيرًا فهدفه هو قتلهما فقط، لذلك ذهب بلا وعي تام إلى شقة ذلك الصديق، ولكنه وجد عائق وهو أصدقاء ذلك الصديق وأعوانه، فراوغ وقال أن جاء ليرى أبنته التي كانت بمثابة النقاء بعد المطر كما يقول، ورآها بالفعل ولكنها لم تتعرف عليه وحاول احتضانها أو تقبيلها ولكنه لم يفلح تماما، وخافت وهربت منه، فهو قد أصبح رجل غريب لها.

فيترك ذلك المكان إلى الشارع إلى اللا مأوى، ويتذكر شيخ والده، ذلك الشيخ الكبير الوقور والذي يرأس حلقة صوفية، وله مريدين وأحباء، يأتون عند المغرب من أجل حلقات الذكر والإنشاد الصوفي، ولكن البطل هنا لم ينتفع بذلك الجو الإيماني ولم يفلح جو الشيخ النقي في إزالة احتقان الرغبة في الانتقام، ولا يوجد شك أن البطل يعتبر الشيخ ملجأ الأمان ولكنه لا يجد عنده الأمان الذي يريده وإن كان هذا الشيخ الصوفي هو الأمان نفسه كما يقول البطل.


ثم يقرر الذهاب إلى صديقه وشريكه وأستاذه في السرقة سابقًا، ولكنه يجده قد استقام وأصبح صحفي له شهرة واسعة وصاحب جريدة خاصة، فيزداد حقده عليه لأنه نفسه ذلك الشخص الذي كان يدافع عن الفقر والسرقة فيما سبق، ولكن البطل يقرر الذهاب إلى فيلته الفخمة المبهرة، وهناك يرفض أن يعطي له عمل محرر أو كاتب مقال في صحيفته الخاصة، فهو وإن كان السبب في جعل البطل قديما يحب القراءة والثقافة إلا أنه رأى في عينيه ومن فلتات لسانه أشباح الحقد والضغينة، فيكتفي بأن يضع في يده بعض المال.


وهذه المعاملة جعلت البطل يخرج من فيلا أستاذه الفخمة ممتلئ من الحقد والغضب، بعد أن زادت الرغبة أكثر وأكثر في العودة إلى السرقة، وسيبدأ بسرقة فيلا أستاذه هذه، عسى أن يغنم ولو محفظة نقوده التي أخرج منها هذا المال القليل الذي في يده، ولكنه لم يفلح في ذلك، وضبطه أستاذه في السرقة وهو يحاول سرقته، فاستعاد منه النقود التي وهبها له، وطلب منه قطع أي علاقة به، والخروج من منزله بلا عودة.



وبعد هذا يلجأ إلى صديق له صاحب مقهى، الذي يذكره بسيدة تعمل في مهنة الدعارة، والتي كانت تساعده قديما في السرقة عن طريق الإيقاع بزبائنها في فخ البطل، وهذه السيدة من كثرة معاملاتها في مهنة الدعارة سئمت وظمئت إلى عاطفة نبيلة مجردة من المادية، والبطل ساهم بغير وعي في ملء هذه الفجوة العاطفية التي كانت تحتاجها وهي تجتاز سلالم عمرها الثلاثيني.


ويطلب من صديقه صاحب المقهى مسدس، ويذهب في الليل إلى منزل زوجته الخائنة وصديقها،ويطلق النار، ويذهب إلى ملجأ الشيخ الصوفي وينام هناك، ليستيقظ متأخرًا ويعرف من الجريدة أنه تورط في قتل شخص بريء لا يعرفه، فزوجته وصديقها هربا منذ اليوم الأول من منزلهم إلى مقر آخر خوفًا من انتقامه الذي لم يفلح أبدًا في إخفائه في نظرة عينه المتوهجة غضبًا، فيغضب لأنه قتل بريئًا لم يقابله أبدًا، ويغضب أكثر لأن علم فيما بعد أنهما انتقلا مرة ثانية إلى مقر آخر غير معروف، بلا أمل في معرفة مكانهما وتحقيق حلم الانتقام.


ولكن الرغبة في الانتقام لم تنطفئ باختفائهما، وإنما تم تحويل مسارها وهي مندفعة نحو شريكه وأستاذه في السرقة، لعدة أسباب: للحقد تجاهه بسبب ثورته الضخمة وقصره الفخم، وبسبب تنكره لمبادئه التي قالها وهو شاب دفاعا عن الفقر مهنة السرقة، وأخيرًا بسبب هجوم جريدته المستمر عليه وإبراز الضوء على جرائمه السابقة حتى لقد أصبح حديث الشارع ونجم الصحافة، مما أدى إلى زيادة اهتمام الشرطة بأمره وكأنه القاتل الوحيد في العالم.


إذن فهو يريد شيئًا واحدًا، الانتقام فقط، وإن اختفى محور الانتقام الأول، فسيتجه إلى غيره!


فيذهب إلى فيلا أستاذه بغرض القتل هذه المرة، وهو متنكر بزي ضابط خاطه بنفسه من حرفته الثانية التي تعلمها في السجن ولم ينتفع منها إلا في تلك المهمة، ذهب إليه وأطلق النار!، ويذهب ليختبأ في منزل صديقته سيدة الدعارة، التي أحبته بعد أن وجدت فيه ما ينقص حياتها، وبادلها الشعور قليلا قليلا إلى  أن ملأت عليه كيانه كله، ذهب إليها واختبأ إلى الغد وحين قرأ الجرائد اكتشفت للمرة الثانية أنه قتل خادم أستاذه ولم يخدش أستاذه في السرقة بخدش واحد!، فيزداد حنقا وغضبا، وتزداد جريدة الأستاذ شراسة في الهجوم عليه وتنقيب ماضيه الأسود، ولتزيد أيضًا شراسة الشرطة في البحث عنها، فيظن البطل أن كل شخص يراه هو مخبر سري سرعان ما سيتعرف عليه ويقبض عليه.


ويحدث أن تتأخر السيدة، لسبب لا يعلمه، ويطول تأخرها، فتزداد شكوكه ويظن أن مكافأة الشرطة في القبض عليه قد غيرت قلبها نحوه!، ولكن لأن الحب تمكن منه طرد سريعا تلك الفكرة من تفكيره، ويزداد تأخرها فيخرج من مخبأه لديها، ويذهب مرة أخيرة إلى بيت الشيخ الصوفي، وينام ويستيقظ على آذان المغرب ومجيء المريدين ويسمع أصوات حلقة الذكر والإنشاد، ويعلم من صوت ما أن الحي كله محاصر، فيخرج ويلتجأ للمقابر، ويزداد هناك الخناق عليه، وتتبع الكلاب البوليسية المدربة رائحته من خلال بدلة الضابط التي خاطها ونسيها في منزل سيدة الدعارة، فيطلق عدة رصاصات بلا معنى أو هدف، ليشعر بعدها أنها النهاية، وأن شخصيات الانتقام أصبح لا وجود لها، فلا معنى الآن لأي موضوع أو وضع أو غاية، فيستسلم بلا مبالاة.



وهناك عدة رموز في الرواية:
بطل الرواية يرمز إلى طبيعة الإنسان، والشيخ الصوفي العجوز والفتاة الصغيرة قد يرمزان لضعف الجانب الطيب والوازع الديني، فالشيخ نصح البطل فقط في كلمات مبهمة وبسبب سيطرة الشيطان على عقله لم تستطع هذه الكلمات أن تمارس مفعولها، والصديق صاحب القهوة قد يرمز للشيطان المساند دائمًا لأعمال الإنسان الشريرة لأنه لم يكن يسانده بشكل فعلي وإنما كان يوفر له كل وسائل مساعدته على الانتقام، وسيدة الدعارة التي اختفت ربما تكون رمز مشاعر التوبة، فهي حركت مشاعر سامية نبيلة في قلب الإنسان، وهي أيضًا التي اختفت نهائيًا من حياته عند قتله للشخص البريء الثاني، مما يرمز إلى أنه قد وصل إلى قاع لا تنفع التوبة فيه، والزوجة السابقة وصديقها عوامل خارجية مؤثرة بذاتها بنسبة ضئيلة، والنسبة الباقية هي التي صنعها الإنسان بشروره ونفسه الأمّارة بالسوء.


2 comments:

fofa said...

طريقةعرض رائعة
لفكرة جميلة جدا
فعلا الانسان بطبيعته ضعيف
ونفسه امارة بالسوء
والرموز الي حضرتك رمزتها كلها هايلة
بس بصراحة الرمز اللي حضرتك رمزت بيه للتوبة يعني بيقلل من شأنها
اعتقد ان التوبة تستحق رمز افضل من كدة بكتير الا اذا كنت حضرتك بتقصد بقى ان السيدة دي بالفعل اشتاقت للتوبة
اسفة على الاطالة
بجد تسلم ايدك

أحمد فضيض said...

وما أجملها من إطالة ^_^

وهي فعلا شخصية هذه السيدة أثّرت كثيرًا في بطل الرواية دون أن يدري ذلك في البداية وقلت أنها أيقظت فيه مشاعر سامية لم يحس بها من أول خروجه من السجن + اختفائها غير المبرر تمامًا بدون أي مقدمات بعد أن أرتكب جريمته الثانية ، وخاصة أنها سبق لها أن عاتبته في لوم على جريمته الأولى بعد أن عرفت بها، ثم أنها زهقت من حياتها السيئة
:D

هو بصراحة الله أعلم، ولكني ذكرت الرموز لسبب بسيط هو أن نجيب محفوظ معروف عنه ولعه بالرموز والاستدلالات، وخاصة في تسميه أبطاله وفي تكوين شخصياتهم، فهذه السيدة أسمها (نور)!

والأسم له دلالته كذلك

أسعدني مرورك وشكرًا :)