Monday, June 25, 2012

|صفحة اليوم| .. الصناديق التي تنشق كالمحار












قرأت صفحة رائعة اليومَ من كتاب «الكلمات» لسارتر، وهو يحكي فيه ما احتفظت به ذاكرته من أحداث سنواته العشرة الأولى، أجمل هذه الكلمات جاءت وهو يتحدث عن مكتبة جده لأمه، وكيف تعجب لأن جده - الأخرق في العادة إلى الدرجة التي تجعل أمه تزرر له ققازيْه- كان يلمس هذه الأشياء الثقافية بمهارة، وكيف رآه ألف مرة ينهض مشتت الفكر ويدور حول مائدته، ويجتاز الحجرة في خطوتين، ويأخذ مجلدًا دون تردد، وبدون أن يمنح نفسه للاختيار، ويقلب صفحاته وهو عائد إلى مقعده، بحركة متناسقة بين الابهام والسبابة، ثم بمجرد جلوسه يفتحه بخبطة واحدة (في الصفحة المطلوبة)، وهو يطقطقه كالحذاء، وقال أنه كان أحيانًا يقترب ليراقب هذه الصناديق التي كانت تنشق كالمحار، وقال أنه كان يكتشف عري أعضائها الداخلية، التي هي أوراق شديدة الشحوب ومتعفنة ومنتفخة قليلا، ومغطاة بعريقات سوداء تشرب الحبر، وتنبعث منها رائحة عش الغراب، وقال أنه لم يكن يعرف القراءة بعد، ولكنه كان محبًا للظهور إلى الحد الذي جعله يطالب بكتبٍ له، ليحضر له جده كتابًا يناسبه، فيقول سارتر:

أردتُ أن ابدأ في الحال احتفالات التملك، وأخذت المجلدين الصغيرين وشممتهما وجسستهما وفتحتهما بلا اكتراث (في الصفحة المطلوبة) وجعلتهما يقرقعان، ولكن عبثًا!، فلم أكن أشعر بأنني أملكهما، وحاولتُ تحقيق نجاح أكبر في أن أعاملهما كأنهما دميتان، فأهدهدهما، وأقبّلهما، وأضربهما!، وانتهى بي الأمر - وأنا أكاد أبكي - إلى وضعهما على ركبتيْ أمي، فرفعت عينيها من على شغلها وقالت لي:

- ماذا تريد أن أقرأ لك يا حبيبي؟!، الجنيات؟!


فسألتها غير مصدّق:

-الجنيات!، هل هي داخل الكتاب؟!


••

وماذا حدث بعد تلك الذكريات الدافئة!، يقول سارتر  أنه غار حينئذ من والدته، وقرر أن يأخذ دورها منها، فاستولى على كتابٍ آخر، وتوجه نحو غرفة خالية، ووقف على السرير وتظاهر بالقراءة، وقص على نفسه قصةٍ ما بصوتٍ عال مع العناية بنطق كل المقاطع، وعندما رآه أهل المنزل، قالوا:

يا للغلام!، حان الوقت لتعليمه الحروف الأبجدية!


الصفحات التالية التي تصوّر مغامرات سارتر داخل مكتبة جده بعد أن تمكن من فك شفرات الصناديق التي تنشق كالمحار، فاتنةٌ فاتنةٌ J



No comments: