Tuesday, December 6, 2016

من فرائد الجمهرة





في الكتابة مهرب، وقد مللت من طول الفترة التي استغرقتها وما زلت في قراءة كتاب جمهرة رسائل العرب، فالكتاب فاتن ومرهق معًا، لذلك أحببت كتابة بعض رأيته في صفحاته، وفي قراءة التاريخ عبرة، فعبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي، كان قد وعد أخيه عبد العزيز بن مروان بالخلافة من بعده، ولكنه فيما بعد وفي أخرياته أحبّ أن يصير أمر الخلافة إلى ابنه الوليد بن عبد الملك، فكتب إليه أخيه عبد العزيز متلطّفًا:


إنْ رأيتَ أن تُصيَّرَ هذا الأمر لابن أخيك ..


فرفض عبد العزيز ذلك، فكتب إليه عبد الملك مرة ثانية يقترح خطة بديلة، أن يتولّى عبد العزيز الخلافة بعده كما وُعد من قبل، ثم يجعلها عبد العزيز نفسه بعد ذلك إلى ابن أخيه الوليد بن عبد الملك

ورفض عبد العزيز هذه الخطة البديلة، وقال إنه يرى في ولده هو: أبي بكر بن عبد العزيز، ما يراه عبد الملك في ولده الوليد

فغضب عليه عبد الملك، ورأى حرمانه من الخلافة بالجملة، ورأى أن تكون الخلافة لابنه الوليد من بعده، وكذا لابنه الثاني سليمان من بعد الوليد، وهمّ أن ينزّل بأخيه عبد العزيز غضبه، ولكنَّ هذا الأخير كتب إليه زاهدًا ومزهّدًا في الدنيا هذه الكلمات البليغة:

يا أمير المؤمنين، إني وإياك قد بلغنا سنًا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً، وإني لا أدري ولا تدري: أيّنا يأتيه الموت أولاً؟!، فإن رأيتَ أن لا تُغنِّثَ عليَّ (أي: لا تفسد عليَّ) بقيةَ عمري .. فافعل!



فرقّ قلب عبد الملك ورحمه ولم يتعرّض لأخيه عبد العزيز حتى مات ميتة طبيعية في آخر خلافة أخيه، ثم مات عبد الملك وتولّى الوليد بن عبد الملك الخلافة بعد وفاة أبيه، كما خُطّطَ لذلك، وطالت حياة الخليفة الجديد، وأحسَّ بينه وبين نفسه أن أخاه سليمان يتمنّى موته الذي تأخّر من أجل أن يمسك هو بدوره الخلافة كما وعده أبوه الراحل، فكتب الوليد إلى أخيه سليمان أبياتًا أولها:

تمنَّى رجالٌ أن أموتَ، وإنْ أَمُتْ
فتلكَ طريقٌ لستُ فيها بأوحدِ

 فأنكر سليمان أنه تمنّى ذلك، وقال له:

علام أتمنَّى ما لا يلبث مَن تمنّاه إلا ريثما يَحُلُّ السَّفْرُ بمنزل .. ثم يظعنون عنه؟!

ثم مات الوليد، وآلت الخلافة إلى سليمان، ولما أحس بدنو الموت، أوصى كذلك بالخلافة إلى أثنين، وبالترتيب الذي يريده، فأولهما لابن عمه: عمر بن عبد العزيز، ثم أن تصير بعد موت عمر بن العزيز إلى يزيد بن عبد الملك
وأنهى سليمان وصيته هذا بكلمة رادعة، فكتب في ختامها:

ومن أبَى عهدي هذا وخالف أمري فالسيف!، ورجوتُ أن لا يخالفه أحد، ومَن خالفه فهو ضالٌ مُضِلٌ، يُستَعتَب، فأن أعتبَ وإلا فالسيف!، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله القديم الإحسان


وخمّنوا ماذا؟

مات سليمان، فجاء بعده عمر بن العزيز الإمام العادل ولم يغيّر شيئًا من تلك الوصيلة، ثم مات، ثم جاء بعده يزيد بن عبد الملك

فالموتي يتحكّمون، والملوك هكذا من قديم الزمان، وفي سالف الأمم في شرق البلاد وغربها، فليس ما حدث في تاريخنا ببدع، والغنيّ عن الذكر إنني لا أعتقد في الخلافة الإسلامية بحال، منذ أبي بكر، فما كانت إلا اجتهاد سياسي من الصحابة، وكذلك لا أعتقد بحال في أحقيّة آل البيت في شيء من أمور الحكم إلا إذا سعوا إلى سدّة الحكم بالإجماع أو القوة أو الحيلة، ولكن عن طريق النسب، لا!، فالحسين بن علي رضيَ الله عنه أراد أن ينتزع الخلافة ممّن رآهم لا يستحقونها لأنهم ظلموا وبغوا وخانوا الأمانة والرعيّة، فهو في رسالة من رسائله العديدة إلى معاوية يأخذ في تعداد مظالمه إلى أن يقول في ختامها:

ما أراكَ إلا قد أوثقتَ نفسَكَ، وأهلكتَ دينكَ، وأضعتَ الرعيّةَ .. والسلام!

ومات معاوية، وتولّى بعده – كالعادة - ابنه يزيد بن معاوية وسار الحسين رضيَ الله عنه إلى غايته في طلب الملك، بالكثير من الناس والجند والأهل، ثم تخاذل عنه من انخذل، وحدثت قربت النهاية حادثة مثيرة، رواها الطبري في تاريخه، فوالي العراق عبيد الله بن زياد كان قد أرسل رجله عمر بن سعد إلى الحسين رضي الله عنه للتفاوض ولمحاولة وضع حدّ للأزمة، وحدثت المقابلة والتفاوض على مدار أيام ثلاث أو أكثر، ونجح المسعى، فالحسين رضيَ الله عنه رأى في النهاية أن ميزان القوة ليس لصالحه، ومال إلى الصلح بعد أن رأى أنه يكاد يكون وحده في الميدان، وفرح رسول والي العراق: عمر بن سعد، بهذه النتيجة، فكتب إلى ابن زياد رسالة ابتدأت بهذا السطر الفرح:

أما بعدُ، فأنّ الله قد أطفأ النائرة (أي: العداوة والشحناء)، وجَمَعَ الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هذا حسينٌ قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نُسَيِّرَه إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيدَ أمير المؤمنين فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبين رأيه، وفي هذا لكم رضًا، وللأمّة صلاح




وهذا يعني أن ما خرج إليه الحسين رضيَ الله عنه لم يكن بالحرب المقدّسة!، فلم يكن سيقبل في هذه الحالة أي مفاوضات حول أحقيّة إلهية رآها لنفسه في الخلافة بعد وفاة جدّه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه الرسالة وحدها تبيّن ذلك جليًا، هذا وقد قرأ ابن زياد الرسالة، واطمئنَّ وكاد أن يرسل إليه ليعلن قبلوه لِما تمَّ، وقال لمَن حوله:

هذا كتاب رجل ناصحٍ لأميره، مُشفقٍ على قومه، نعم!، قد قبلتُ


ولكن شَمِر بن ذي الجوشن، الذي يعرفه التاريخ بقاتل الحسين، كان هناك في هذا الموقف، وأوغر صدر ابن زياد على الحسين بأسلوب به الكثير من الدهاء والحيلة، فقد قال له، كما في الطبري:

أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك؟، والله لئن رحل من بلدك ولم يضع يده في يدك، ليكونن أولى بالقوة والعزّ، ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبتَ فأنت وليّ العقوبة، وإن غفرت كان ذلك لك


فقال له ابن زياد:

نعم ما رأيتَ، الرأي رأيك!


ولكن لم يكن الحسين بالرجل الذليل، وكان عمر بن سعد يدرك هذا في مفاوضته إياه، فأعطى له خروجًا كريمًا لا يُمسَّ كرامته بشيء، وأبى ابن زياد بمشورة رجل السوء شمر بن ذي الجوشن إلا أن يضيّق عليه كل سبيل إلا سبيل الاستسلام التام الذليل

ثم سارت الأمور إلى غاياتها قدمًا!

أما أنه رأى أنه الأحق بها بسبب نسبه من الرسول الكريم وإنه من آل البيت .. فلا!، فالله لم يرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ملكًا!، ولم يوص لأحد كائنًا مَن كان بالوصاية على المؤمنين من بعده، ولم يلمح بذلك، ولم يشر، ولم يكتب كتابًا يحدّد فيه اسم خليفته، ولا حدث أي شيء من ذلك منه، صلى الله عليه وسلم.

هذا وقد سُئلَ الإمام مالك، إمام أهل المدينة، عن معنى "الآل" من هم، فقال: قومه!، ثم قرأ قوله تعالى:

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ


وهل قد يُفهم من تلك الآية غير ذلك؟

No comments: