Tuesday, June 26, 2012

فليقل خيرًا او ليصمت






يحدث دون إرادة مني أن أعيد على مسامعي كلمة، أي كلمة، مرارًا وتكرارًا إلى أن انتبه إلى أنني -في غمار التكرار والإعادة- فقدتُ معنى هذه الكلمة، وكأنها تحللت وصارت أحرفًا لا معنى لها، كأنك أمسكت حرفًا من هنا وحرفين من هناك وأخرجت منهما كلمةً لم تمر بأذن إنسان من قبل!، واسأل نفسي كم سنة لزمت لتصبح لهذه الكلمة معنى في أذن السامعين!، أنا لا أعرف!


••


وهناك تدوينة رأت صاحبتها أن نداء مرسي للمصريين بكلمتيْ (أهلي وعشيرتي)، أكثر دفئًا وشعبية من (الأخوة والأخوات)، ولكن لماذا؟، إننا ابتذلنا كلمة الأخوة والأخوات فلم نقدرهما قدرهما، وهما من ناحية المعنى أكثر قربًا وعلاقة وصلة من الأهل والعشيرة، مثلما مرت على عيني من قبل كلمة المؤاخاة التي عقد أواصرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار عند الهجرة الشريفة، فهذه المؤاخاة لم تتجاوز حال قراءتي لها لمعنى الصداقة المعتاد، مثلما يرحب رب البيت بالزائر، ولكن مع الوقت أدركت أن للمعنى ظلالا أخرى لم أكن أعرفها، انتبهت -أول مرة - لجزءٍ ضئيلٍ من الظلال المحيطة لمعنى المؤخاة، عندما قرأت خبر سلمان الفارسي مع  «أخيه» أبي الدرداء الأنصاري، عندما دخل المنزل ووجد زوجة أخيه أبي الدرداء مبتذلة، أي مرتدية ما يناسب القيام بأعمال البيت والتنظيف، ربما كان ذلك لدون حاجة حقيقية لارتداء هذه الملابس، أو ربما لأنه رآها كثيرًا من قبل بهذه الملابس!، فسألها عن شأنها، فقالت:

- إن أخاك أبا الدرداء يقوم الليل ويصوم النهار وليس له في شيءٍ من الدنيا حاجة!



أي أنها شكتْ إليه في مواربة إهمال (أخيه) بالقيام بحقوقها الزوجية، ثم يمضي راوي الحديث فيقول أن أبا الدرداء جاء وهم معًا، فرحب به سلمان الفارسي وقام بنفسه (وهو في بيت أبي الدرداء) ليعد له طعامًا، ولما قال له: كُل!، أجاب أبو الدرداء: إني صائم!، فأعاد سلمان قوله: ما آكل حتى تأكل!، أقسمتُ عليكَ لتفطرنّه!، ثم أكلا معًا، ولما جاء أول الليل وهو معه أراد أبو الدرداء أن يقوم الليل، فمنعه سلمان وقال له: نَم!، ثم مضى قطعٌ من الليل، فأراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال له مرة أخرى: نَمْ!، ثم آتى آخرُ الليل، وأيقظ سلمان الفارسي أبا الدرداء من النوم وهو يقول له: قُمْ الآن!، فقاما الليلَ وصليا معًا، ثم قال له سلمان الفارسي: إن لجسدك عليك حقًا، ولربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقًا، فصم وافطر، وصل وآت أهلك، وأعطِ كل ذي حقّ حقه!


ثم حان وقت صلاة الصبح، فخرجا معًا إلى المسجد، وقابل أبو الدرداء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما كان من أمر سلمان الفارسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان!، إن لجسدك عليك حقًا مثل الذي قال لك سلمان!


••


وجزء آخر من ظلال معنى المؤاخاة رأيته عندما كنت اقرأ في تفسير الآلوسي لمعنى:

أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مّفَاتِحهُ


فقد قال أنه قد كان السلف ينبسطون بأكل أصدقائهم من بيوتهم ولو كانوا غيبا، ويحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها أطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فسر سرورا، وضحك وقال: وجدناهم هكذا وجدناهم!  ( يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين)


وقال الآلوسي:

كان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسَه فيأخذ ما شاء فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك وهذا شيء قد كان ..

إذا الناسُ ناسٌ والزمانُ زمانُ


ثم يقول الآلوسي المائت منذ أكثر من 160 عامًا، بحسرة:

وأما اليوم فقد طوى فيما أعلم بساطه، واضمحل والأمر لله تعالى فسطاطه، وعفت آثاره وأفلت أقماره، وصار الصديق اسمًا للعدو الذي يخفي عداوته وينتظر لك حرب الزمان وغارته، فآه ثم آه ولا حول ولا قوة إلا بالله ..


••


ما معنى الإخاء، لا أعرف يقينًا!، مثلما لم يعرف الصوفي إلا متأخرًا بعضًا من ظلال «الله أكبر» الذي يقولها في مفتتح الصلاة!، ليصير كلما همّ بصلاةٍ مضطربًا أشد الاضطراب، ويسأله الناس: ما لك!، فيقول: كيف أقول الله «أكبر» وفي نفسي مِن الدنيا ما يشغلني!


••


مررت عابرا على الآية الكريمة:

لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ

ما معنى الغفلة!، لا أدري، ثم انتبهتُ وقلتُ: يا مغفّل! - أي أنا ! - هل لابد أن يأتي الحرف مشددًا والكلمة مقرقعة لتنتبه لها!،  ربما أتت الكلمة ناعمة الأحرف هكذا .. غَـ .. ـا فِـ .. ـلُ!، بدلا من « أولئك هم المُغَفَّلُونَ»، كي لا تثير صدىً وانفجارًا إلا في القلوب اليقظة، أليس للألم حدًا إن تجاوزه أتت الغيبوبة وحالت بينه وبين الشعور بما فوق طاقته!، أليس لقدرة الأذن البشرية حدًا، وما جاز هذا الحد من الأصوات فهو لا يُسمع وإن كان الصوت هائلا لا يسع للأذن تخيله!


ونقول كما نتنفس: «قال رسول الله!»، إلا واحدٌ، صحابيٌ جليل، كان عندما يقولها، يرتجف ويستند على عصاه ويصفرّ وجهه، إلى أن يشفق عليه أصحابه ويرحمونه، إنه يدرك أي بابٍ للجحيم قد تفتحه هذه الكلمة «قالَ رسول الله» إن هو تناسى أو غفلَ عن كلمةٍ واحدة قالها الرسول عليه الصلاة والسلام، إن للكلمة لديه معانٍ وظلال ممتدة ودون بلوغ منتهاها خرطُ القتاد!


••



أن الصمتَ لمنجي، ولكن شهوة الحديث قاتلة، وويحك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصاد ألسنتهم؟!


1 comment:

عمرو يسرى said...

احسنت القول
تحياتى